"انتفاضة حدود رفح" الشعبية ستدخل التاريخ الفلسطيني في تنويعة غزّية شجاعة ومعاصرة لصيحة "أبي ذر الغفاري" المشتهرة: "عجبت لمن لا يجد قوت عياله كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه". آباء وأمهات غزة وقد هدَّهم جوع أبنائهم, وحصار عدوهم لهم وعجز قياداتهم والتهاؤها ببرامجها الحزبية, خرجوا على الناس شاهرين كل نفاد صبرهم. استلوا المادة الأولى من دستور الغضب "الغفاري", تحدُّوا الحصار الدولي المفروض عليهم, وطفقوا يجمعون رغيف الخبز وراء الحدود. الجانب المشرق في هذه الانتفاضة الباهرة هو أنها أعادت الروح والفعل للحركة الشعبية العارمة وواسعة النطاق لمجاميع الناس العاديين المدافعين عن أبسط حقوقهم في الحياة. أعادت الفاعلية العفوية لـ"الجماهير" التي شلها المناخ بالغ التحزب الذي عصف بفلسطين في السنوات الأخيرة. وهي تذكير بالغ العمق بروح الانتفاضة الأولى إذ كانت عبقريتها الكبرى في حشدها للناس وانخراطهم فيها, قبل أن يدخل إليها الرصاص والعسكرة ليخرجا منها "الجماهير". انتفاضة حدود رفح وصلت إلى عمق ضمائر الناس في كل مكان, وما كان بإمكان أيٍّ تفادي تقديرها, وتعظيم إنسانيتها. كذلك كان أثر وفعل الانتفاضة الأولى بالغي السطوة والتأثير في مرحلتها الأولى, إذ أعادت لحظتها موضعة القضية الفلسطينية على رأس الأجندات الإقليمية والدولية وأوصلت الرسالة السهلة لكن النافذة: الشعب الفلسطيني لا يزال تحت الاحتلال الجبروتي الإسرائيلي وهدفه التخلص من ذلك الاحتلال. كانت "بلورة" تلك الرسالة على ذلك الوجه هي الإنجاز "الثوري" الهائل الذي تقوض تدريجياً خلال السنوات اللاحقة, حيث لحق الغبش بتلك الصورة, حين أزاحت التنظيمات والفصائل العسكرية كل المشاركة الشعبية, وقدمت رسالة أو رسائل أخرى, يضيق المجال عن شرحها الآن. لكن الخروج المبرر والمبجل لـ"أبي ذر" شاهراً سيفه في غزة باحثاً عن قوت أبنائه يحمل أيضاً مخاطر يوتوبيا "الخروج" ووجهته والشرك السياسي الذي قد يقع فيه. ففي نهاية المطاف كان معاوية, صاحب مشروع الدولة الواقعية, هو الذي يقيم حساباته على الأرض وليس في الهواء. كانت انتفاضة حدود رفح ستكون "معاوية التوجه" -إن جاز التعبير- لو أنها توجهت إلى حاجز "إيريز" وبيت حانون, أي باتجاه الضفة الغربية وفلسطين وليس باتجاه مصر. والشرك الذي قد يتورط فيه "أبو ذر" الغزي يقع هنا بالضبط: فتح الحدود نهائياً مع مصر معناه الإمعان في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية, ونزع الصفة الاحتلالية الإسرائيلية عنه بتوهم أنه واقع تحت السيطرة الفلسطينية (الحماسية). وإزاحة العبء الاحتلالي وحتى السمة القانونية للوضع القائم وتكريس فصم الجزءين عن بعضهما بعضاً هو قلب الاستراتيجية الإسرائيلية. والذي لا يدرك أن الوضع الانقسامي القائم يخدم إسرائيل كما لم تكن تحلم أن تُخدم فهو لا يرى عمق الأشياء. بلغة أكثر مباشرة فإن الخيارين المطروحين الآن على قطاع غزة, وعلى حركة "حماس" على وجه التحديد هما التاليان: الأول الإصرار على التمسك بالوضع القائم حيث السيطرة الحماسية التامة على القطاع, مع التوهم بتحقيق قدر من السيادة, وإمكانية كسر طوق الحصار عن طريق الانفتاح الجزئي على مصر. هذا الوضع والإصرار عليه سيخدم الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على ترسخ الانفصال, لأنها, والعالم معها, لن تتعامل معه. كما أن ثمة احتمالات عدة برسم الانفتاح على المجهول أهمها إبعاد قطاع غزة وسكانه من اللاجئين عن الارتباط العضوي بالقضية الفلسطينية, وربما تسهيل هجرتهم التدريجية منه وتشجيعهم على ذلك. وعلى الصعيد الوطني العام سيخسر الفلسطينيون جملة وتفصيلاً, ويدخل المشروع الوطني, تحريراً ودولة مستقلة, مرحلة جديدة وبائسة من التذرِّي. على الصعيد الحزبي ستواصل "حماس" ظفرها وسيطرتها على القطاع, لكن الثمن المدفوع باهظ وعلى "حماس" أن تعيد حساباتها كلياً فيما هي مقدمة عليه. أما الخيار الثاني فهو إعادة توحيد القطاع بالضفة الغربية مهما كان الثمن بما في ذلك تخلي حماس عن "المكاسب" التي حققتها, وإعادة الحكم, أو حتى إعادة الاحتلال الإسرائيلي كاملاً لقطاع غزة. نعم: أراضٍ فلسطينية موحدة تحت الاحتلال أفضل ألف مرة من الانقسام الراهن المؤدي إلى تجزئة أبدية للأرض الفلسطينية. إن تقطيع الأرض الفلسطينية وقضمها يومياً عن طريق الاستيطان أو جدار الفصل العنصري وتفتيتها بحيث تصبح غير صالحة لأي مشروع كيان وطني هو استراتيجية إسرائيلية يبصرها الأعمى الآن. ودحر قطاع غزة إلى الجنوب أكثر وأكثر وربطه حياتياً بمصر يصب في مشروع التقطيع ذاك. حياة القطاع يجب أن تظل مربوطة عضوياً بالضفة الغربية, لأن ذلك مفهوم توحيدياً ومصلحياً, ومربوطة بإسرائيل القوة الاحتلالية, لأنها المسؤولة الأولى والأخيرة عن تأمين تلك الحياة بكونها الطرف المحتل والمسؤول قانونياً عن الوضع القائم. وعلينا أن نتذكر أن تغوُّل استراتيجية التقطيع الإسرائيلية تفاقم بعد الانتفاضة الثانية (سنة 2000 فصاعداً) حين عزلت المدن والمناطق الفلسطينية حتى في الضفة الغربية عن بعضها بعضاً عن طريق مئات الحواجز, وبحيث أصبحت كل مدينة أو منطقة كثافة سكانية كانتوناً منعزلاً عن بقية المناطق. وعلينا الإقرار بمرارة أن جيلاً كاملاً تربى الآن (ممن كانت أعمارهم في حدود العاشرة) لا يعرفون من فلسطين إلا مدنهم أو قراهم أو ما يحيط بها. وأن ما ترتب على ذلك هو نشوء ثقافات محلية وولاءات ضيقة وضعف في الولاء العام, ناهيك عن فقدان التشبع بالجغرافيا الوطنية. ومرة أخرى, فإن وحدة عضوية متواصلة تحت الاحتلال الإسرائيلي تضمن تداخلاً ومبادلات وزيارات وزيجات بين المدن الفلسطينية وسوى ذلك أفضل ألف مرة من الوضع القائم حيث وهْم السيطرة والسيادة الداخلية المحدودة على هذه المدينة أو القرية الفلسطينية, بينما هذه المدن والقرى لا تتواصل مع بعضها بعضاً. وضع التقطيع وانعدام التواصل هو السمة البارزة في الضفة الغربية. أما بين الضفة ككل وقطاع غزة فالأمر أعوص, إذ هو الآن حدود دولية تزداد تكرساً يوماً إثر يوم, وتتعزز مع الحالة الانقسامية الفتحاوية الحمساوية الراهنة. مرة أخرى, يجب ألا تغتر "حماس" بإمكانية كسر طوق الحصار، وبالإغراء الذي يتيحه ذلك لجهة التمسك بالانفراد بحكم غزة, فذلك شرك مخيف حقاً. المطلوب منها التفكير ملياً بالوجهة الاستراتيجية العامة, وليس الانجرار العاطفي وراء سيف "أبي ذر" الغزي, الذي يعبئ الوجدان الشعبي, لكن لا يقدم حلاً بعيد المدى. والحقيقة المرة التي على "حماس" أن تتجرعها هي أن العالم ومنذ سنوات طويلة ما عاد يعترف إلا بسياسة فلسطينية تغزل على منوال السياسة الواقعية. وأن محاولة الاستسخاف بذلك العالم, كما كان صرح عدد من قادة "حماس" بأن الحركة ستتوجه نحو الشرق إن أغلق الغرب أبوابه, ثبت فقدانها للحصافة. فحكومة "حماس" الأولى ثم حكومة الوحدة الوطنية والآن الحكومة المقالة في غزة كلها واجهت الواقع الصلد الذي يقول إن ذلك "العالم" شئنا أم أبينا, شتمنا أم سكتنا, هو الذي بات بيده شريان الحياة. مع ذلك فإن انتفاضة "أبي ذر" الأخيرة في تحدي الحدود تحمل أكثر من درس لكن في اتجاهات أخرى, وهي اتجاه مركزية وأثر الحركة الشعبية وتفوقها على الحركة الحزبية وخاصة العسكرية. إنها تعيد تأكيد تفوق الانتفاضة السلمية على الانتفاضات العسكرية والمسلحة, وذلك حديث آخر يطول، ويستحق وقفة خاصة به.