نتيجة لخطب بوش الصغير وتصريحاته النارية، وسلوكه الخارجي المتعالي، ومواقفه المتطرفة تجاه الأزمات والمشكلات الدولية، وقراراته المستمدة من "الاستراتيجية الاستباقية" التي تعتمد على القوة العسكرية المفرطة وحدها لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية الكونية، اندفع كثير من شعوب وحكومات بعض دول الشرق الأوسط، بل وبعض الكتاب والباحثين، إلى اعتبار بوش الصغير رئيساً للعالم أو الإمبراطور الحاكم بأمره في المجتمع الدولي، وتناسوا أو نسوا أنه رئيس دولة، نعم هي الدولة العظمى الوحيدة في العالم التي تمتلك الكثير من عناصر القوة الشاملة، لكنها تظل "دولة"، مثل أي دولة أخرى في الكون، تسعى إلى تحقيق مصالحها الاستراتيجية على حساب الآخرين، ولها توجهاتها السياسية الخاصة، وتستخدم ما تملكه من قوى في سبيل ذلك، وتحاول استغلال أية ظروف سياسية أو اقتصادية خارجية لصالحها، ولها أعداؤها وأصدقاؤها وحلفاؤها، ومن يقف ضدها ومن يساندها أو يتخلى عنها أو يتنكر لها، وتحاول تغطية انكشاف أمنها الوطني، وتواجه خسائر مادية وبشرية فادحة في سبيل ذلك، ولها حدود في التأثير على باقي دول العالم، ولا تملك أمر "كن فيكون". وليس ببعيد مواقف دول مثل كوبا وفنزويلا والهند وسيرلانكا، وهي دول أقل قدرة وتأثيراً في العالم، قالت "لا" لواشنطن في ظروف ومواقف وأزمات عديدة. كما أنه ليس خافياً على أحد أن رئيس العالم أو حاكمه، يجب أن يكون عادلا ًوحكيماً وديمقراطياً ومسانداً للفقراء في مواجهة الأغنياء، أو ديكتاتوراً يأمر فيطاع، ويملك ويحكم، ويتبعه "جيش" للعالم و"شرطة" دولية، وهذا كله غير متوافر للإمبراطور بوش الصغير، فكيف يتعامل معه المجتمع الدولي على أنه رئيس للعالم؟ لذلك فإن جولة بوش الصغير في منطقة الشرق الأوسط التي زار فيها ست دول، يجب أن توضع في مكانها الصحيح، فهو رئيس دولة يزور رؤساء دول أخرى بينها وبين واشنطن مصالح مشتركة وتعاون وثيق في مجالات متعددة، ولكل منهم إرادته في اتخاذ القرار، وتحالفاته الخارجية، ومصالحه الخاصة. وفي هذا السياق آثرت أن أتعرض للزيارة بأكملها بعد انتهائها، في محاولة لإدراك مغزاها، سواء من حيث التوقيت أو النطاق الجغرافي أو القضايا والموضوعات التي جرى التطرق إليها، ثم تداعيات ذلك كله على منطقة الشرق الأوسط. في البداية يجب أن نحترم خصوصية الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي" في مسار العلاقات العربية-الأميركية، انطلاقاً من عدة مرتكزات: أولاً، الخصوصية الشديدة في العلاقات البينية الإسرائيلية-الأميركية، والتي دفعت الولايات المتحدة للتمسك بالحفاظ على أمن إسرائيل مهما كانت النتائج. وثانياً، حساسية الدول العربية تجاه الوضع الفلسطيني وتعاطفها الشديد مع ما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم وقتل وترويع وتشريد ومصادرة لأبسط حقوق الحياة على أيدي حكومة إسرائيل ورفضها احترام أية مواثيق أو قرارات دولية، وثالثاً؛ أن هذا هو الصراع الوحيد في العالم والذي تجاوز عمره ستين عاماً، أي بلغ مرحلة الكهولة، ولم يُتوصل بشأنه لأي حل يرضي جميع الأطراف المعنية، ويضع حداً لاستنزاف دماء الشعب الفلسطيني ومعاناته اليومية. لذلك كله جاء موقف الرئيس الأميركي بوش الصغير متسقاً مع مواقف سابقيه في التعهد بالحفاظ على أمن إسرائيل، والسماح لها بأن تعربد كما تريد، ضارباً بمصالح باقي دول الشرق الأوسط عرض الحائط، رغم تأكيده على ضرورة قيام دولتين متجاورتين، "فلسطينية" و"إسرائيلية"، على أن يتم تجريد الدولة الفلسطينية من كل سماتها كدولة ومنح إسرائيل الفرصة لاغتيال من تريد وتشريد من ترغب عبر شعار بوش الصغير "القضاء على الإرهاب الفلسطيني"! وغض الطرف عن الاستيطان لاختزال الأراضي الفلسطينية كيفما تشاء لضمان مكان ليهودية إسرائيل. وإذا كان بوش الصغير قد أكد على أهمية قيام دولة فلسطينية قبل نهاية عام 2008 وفق "طريق أنابوليس"؛ فإن وعده هذا كان يُفترض أن يصبح حقيقة واقعة قبل نهاية عام 2005 وفق ما سُمي "خريطة الطريق"، لكنها وعود رئيس دولة عادية وليس العالم. وقبل أن نتعرض لموقف بوش الصغير من باقي قضايا وموضوعات زيارته للشرق الأوسط، يجب أن نتذكر أيضاً تقرير "بيكر-هاملتون" عام 2006، والتقرير الصادر عن 16 جهاز استخبارات أميركياً وطنياً في نهاية عام 2007، وكلاهما أكدا خطأ سلوك الإدارة الأميركية برئاسة بوش، مما يعني أنها حكومة عادية تخطئ وتصيب مثل أي حكومة أخرى في العالم، والفارق الوحيد هو أن خطأ إدارة بوش الصغير يقضي على ملايين البشر. والتناقض المستمر في إدارة السياسة الخارجية الأميركية واضح تماماً خلال حكم الرئيس بوش، والأمثلة على ذلك عديدة، منها مسألة المطالبة بالديمقراطية وما حدث مع حكومة "حماس"، والتفاوض مباشرة مع إيران ومطالبتها بالتعاون للحد من دعم التمرد في العراق في الوقت الذي ترفض فيه مفاوضتها لحل أزمة البرنامج النووي، وتحشد المجتمع الدولي ضدها لحصارها وعزلها، لذلك فإن طهران (الشيطان الأصغر) تفتح الجبهات أمام "الشيطان الأكبر" في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، على اعتبار أنه لا فرق بين الشياطين سوى في حجم الدمار الذي يلحقه كل منهم بالبشر، وربما يكون هذا هو السبب الرئيس وراء تجنب بوش الحديث عن التوجه النووي الإيراني، واتهام إيران، بدلاً من ذلك، بالتهمة الجاهزة: دعم "الإرهاب". لقد كانت زيارة بوش عادية ولم تأت بجديد، وهو أمر متوقع لأنه رئيس دولة وليس العالم، يشجب ويدين ويرفض ويساند ويؤيد ويهدد، فيما عدا "الحلقة الأضعف" أي العراق الذي يحتله بوش، وإسرائيل (جوهرة تاج الإمبراطورية العظمى) التي يأتمر بأمرها، والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد "طلب" من سوريا وإيران وقف التدخل في لبنان، ودعا دول المنطقة لمساندة رئيس حكومة لبنان فؤاد السنيورة، لكنه لم يتخذ أي خطوات عملية لوضع حل شاف للأزمة في لبنان، واكتفى من قبل بإرسال المبعوثين لدراسة الموقف وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء من أنصار "آذار"، سواء الرابع عشر أو الثامن منه، وهذا يعني بوضوح أن بوش رئيس دولة وليس رئيس العالم، فإرادته على التأثير في الوضع اللبناني لها حدود، كما أن لإمكانياته وقدراته على التغيير في لبنان حدوداً أيضاً. أما مسألة الحفاظ على أمن الخليج فهي لم تخرج عن قضية الوجود العسكري الأميركي المباشر من ناحية، واستمرار وعد بوش بالحفاظ على الاستقرار والأمن والسلام من ناحية أخرى. لكن كيف يتحقق ذلك وبوش يعلن في كل فرصة تحرشه بإيران؟ إنه يتحقق فقط بوجود نوع من الخطوط الحمراء التي يتفق الطرفان على عدم تجاوزها حفاظاً على الوضع القائم، وتصديقاً للمقولة الواثقة والمتكررة للرئيس الإيراني: "إن أميركا لن تهاجم إيران"، وهذا بدوره يؤكد أن بوش رئيس دولة وليس رئيساً للعالم. وبالنسبة لأسعار النفط، كان حديث الرئيس بوش الصغير مقتضباً وسريعاً في التوقف عند حدود المطالبة بالسيطرة عليها، وحث الأطراف المعنية على زيادة الإنتاج، وهو الذي كان يتبنى استراتيجية التخلص من "إدمان النفط" في حين أن الجميع يعلمون أن بوش يرأس إدارة نفطية، وارتفاع سعر النفط يصب في مصلحتها، فهو رئيس دولة يسعى للحفاظ على مصالح شركاتها الكبرى. كما لم ينس بوش الصغير مسؤوليته تجاه مصالح شركات السلاح الأميركية، فلم يتوان عن إتمام اتفاق بعض صفقات السلاح مع بعض دول المنطقة. لقد زار بوش ست دول في منطقة الشرق الأوسط، وعاد إلى وطنه، مثل أي رئيس دولة حاول أن يوطد علاقات دولته السياسية والاقتصادية مع هذه الدول، ويجب أن نتذكر ذلك ولا نُحمِّل الأمور أكثر مما تحتمل!