يدّعي الصهاينة أن المسألة اليهودية هي نتيجة كره الأغيار لليهود، وأسباب هذا الكره متنوعة، فالصهاينة العماليون، على سبيل المثال، من خلال تحليل علاقات الإنتاج في المجتمع، يصلون إلى نتيجة مفادها أن المجتمعات البشرية لا تسمح لليهودي أن يعمل في القطاعات الإنتاجية، وأن اليهودي من ثم محكوم عليه بالهامشية والطفيلية، وأن الحل الوحيد لهذه الهامشية البنيوية (أي اللصيقة ببنية المجتمع) أن يؤسس اليهود وطناً لهم يمارسون فيه سيادتهم القومية ويشغلون فيه كل المواقع في الهرم الإنتاجي. ويذهب صهاينة آخرون إلى أن معاداة اليهود ليست لصيقة ببنية المجتمع وحسب، بل لصيقة ببنية النفس البشرية. وهذا ما عبَّر عنه "شامير" بشكل سوقي حين قال إن "البولنديين يرضعون معاداة اليهود مع لبن أمهاتهم". وهذه الرؤية اختزالية، لأنها تجعل من الظواهر الاجتماعية مسألة إرادية وحتمية في ذات الوقت، "إرادية" بمعنى أن كره الأغيار لليهود ليس مسألة ظروف اجتماعية وإنما نتيجة شيء أصيل في نفوس الأغيار، و"حتمية" بمعنى أنه أينما وُجدَ اليهود فإن كره الأغيار سيلاحقهم. فالإنسان، من هذا المنظور، كائن لا يمكنه أن يميّز بين الخير والشر وأن يختار بينهما. وممّا لاشك فيه أن الظواهر الإنسانية لها جانبان: الجانب "الإرادي" الذي يعبّر عن حرية الإنسان (اليهودي وغير اليهودي)، والجانب الحتمي الناجم عن الظروف الاجتماعية والتاريخية التي تقع خارج إرادة الإنسان، إذ يمكن أن تتشكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في مجتمع ما بطريقة تجعل من العسير على بعض الأفراد الاستمرار فيه، ويتم هذا من دون وعي من أعضاء هذا المجتمع، وهذا هو مصدر تنوع وتعدد الظواهر الإنسانية. ولكن الصهاينة بدلاً من أن يدركوا تركيبية المسألة أو المسائل اليهودية وتعدد الظروف الاجتماعية والتاريخية التي أدت إلى ظهورها، وبدلاً من أن يدركوا أن ثمة عنصراً إنسانياً لا يمكن التنبؤ باتجاهه، يختزلونها في سبب واحد حتمي وإرادي في آن واحد: كره الأغيار لليهود. ولنضرب مثلاً بما حدث لأعضاء الجماعة اليهودية في كوبا، فقد واجهوا "مسألة يهودية" من نوع خاص للغاية. فحينما استولى كاسترو على الحكم كان معروفاً بتعاطفه مع أعضاء الجماعات اليهودية (خاصة أن بعض الثوريين اليهود الروس، ممن هاجروا إلى أميركا اللاتينية هرباً من النظام القيصري وحققوا ثروات طائلة، قاموا بدعمه مالياً قبل الثورة). وكانت حكومة الثورة الجديدة ترغب رغبة صادقة في أن تتعاون مع أعضاء الجماعة اليهودية وأن تستفيد من خبراتهم. وللتعبير عن نواياها الحسنة نحوهم، بذلت الحكومة الكوبية قصارى جهدها لتوفير اللحم المذبوح شرعياً لهم، كما اتخذت خطوات أخرى من شأنها أن تجعل بوسعهم أن يحققوا إمكاناتهم الإنسانية داخل الاقتصاد الجديد، لكل هذا كان من المتصور أنه لن تنشأ "مسألة يهودية". ولكن حدث أن التحولات الاقتصادية الجوهرية وتأميم كثير من القطاعات الاقتصادية التي كان اليهود مركزين فيها، دفع معظم أعضاء الجماعة لأن ينزحوا عن كوبا، أي أن الإرادة الإنسانية (الرغبة الصادقة في التعاون مع أعضاء الجماعة اليهودية) لم يمكنها من الصمود أمام التحولات الاجتماعية والاقتصادية. ومع هذا لابد من التأكيد على أنه لم تكن هناك ضرورة حتمية أن ينزح معظم أعضاء الجماعة اليهودية إذ كان بوسعهم البقاء والاندماج في المجتمع الجديد مع توجهه الاشتراكي. ولعل هذا هو ذاته ما حدث حين انتخب "الليندي" رئيساً للجمهورية في تشيلي، فقد تبنى المنهج الاشتراكي، مما كان يعني تأميم بعض القطاعات الاقتصادية. ورغم أن النظام الاشتراكي الجديد منح أعضاء الأقليات حقوقهم السياسية والمدنية، فإن أعضاء الجماعات اليهودية واجهوا مشكلة تأميم ثرواتهم، وبالتالي نزحت أعداد كبيرة منهم. ولكن مع عودة حكم "بينوشيه" الشمولي تم إلغاء القوانين الاشتراكية وساد الاقتصاد الحر، فعادت أعداد كبيرة منهم. وإذا كانت البنية الاجتماعية والاقتصادية في تشيلي طاردة أو جاذبة لأعضاء الجماعات اليهودية، فإن قرار النزوح عن المجتمع أو العودة إليه قرار يتخذه كل فرد بكامل إرادته. وقد واجه الشباب "اليساري" من أعضاء الجماعات اليهودية (شأنهم في هذا شأن كثير من الشباب اليهودي في أرجاء أميركا اللاتينية) بطش الحكومات الشمولية (الاغتيال- الاعتقال). وقد قامت الدولة الصهيونية (التي تدّعي أنها أُسست للدفاع عن اليهود) بمد هذه الدول بالأسلحة والخبرة العسكرية. فهل يمكن هنا أن نتحدث عن مسألة يهودية واحدة؟ ويلاحظ أن الدولة الإمبراطورية قد تضطهد جماعة يهودية في مكان ما ولسبب ما، وتتحيز لهم وتناصرهم في مكان آخر ولسبب آخر. فالإمبراطورية الرومانية قامت بقمع كل التمردات اليهودية التي قامت ضدها في فلسطين وتم إخضاع الجماعة اليهودية فيها. أما بقية الجماعات اليهودية المتناثرة في البلدان الخاضعة للإمبراطورية فكانت تمارس وظائفها وتتمتع بحقوقها شأنها شان الأقليات والشعوب الأخرى. والأمر لم يكن مختلفاً بالنسبة للإمبراطورية البريطانية في القرن التاسع عشر، فقد حاولت بريطانيا منع يهود شرق أوروبا من التدفق عليها والاستيطان فيها، وأصدر البرلمان البريطاني عام 1905، حينما كان "بلفور" رئيساً للوزراء، "قانون الغرباء" لتحقيق هذا الغرض. لكن الإمبراطورية البريطانية التي كانت تبذل قصارى جهدها لتمنع اليهود من الاستيطان فيها، لأنهم كانوا يهددون الأمن الاجتماعي (حسب تصور النخبة الحاكمة والأقلية السفاردية الثرية) هي ذاتها التي مكنتهم من الاستيطان في فلسطين (لتقسيم العالم العربي ولتكون قاعدة للاستعمار الغربي). ولنضرب مثلاً آخر بمسألة يهود روسيا القيصرية، فقد أدَّى تقسيم بولندا إلى أن ضمت روسيا فيما ضمت مناطق شاسعة تعيش فيها أعداد كبيرة من الكتلة البشرية اليهودية اليديشية. ولأن النبلاء البولنديين كان محرماً عليهم التجارة (حيث تفرغوا لأعمال السياسة والحرب)، وكان الأقنان ملتصقين بالأرض، كما كانت طبقة التجار ضعيفة للغاية، اضطلع اليهود بوظيفة طبقة التجار والحرفيين وأصبحوا جماعة وظيفية وسيطة. هذا على عكس روسيا القيصرية، التي لم تكن التجارة فيها تُعتبر مهنة وضيعة، ولذا كانت الحكومة نفسها تقوم بالتجارة كما اضطلع بعض النبلاء بالوظيفة نفسها. وكانت روسيا، من الناحية الاقتصادية، مستعمرة إنجليزية أو منطقة نفوذ للاقتصاد الإنجليزي. وبعد الحصار الذي فرضه نابليون على إنجلترا على نطاق القارة كلها، حدث تَقدم صناعي وتجاري نظراً لاضطرار روسيا إلى الاكتفاء الذاتي اقتصادياً. فظهرت أشكال اقتصادية جديدة مما أدى إلى فقدان كثير من أعضاء الجماعة اليهودية وظائفهم، فهم كانوا جزءاً من النظام الاقتصادي القديم. ولابد أن نشير هنا إلى أن المسألة اليهودية لم تكن المسألة الوحيدة التي جابهتها الحكومة القيصرية، فقد كانت هناك "مسألة إسلامية تترية" وثانية "بولندية" وثالثة "أوكرانية"، إذ كانت الإمبراطورية القيصرية مترامية الأطراف تضم عشرات الأقليات والشعوب، وكانت تحاول أن تفرض عليهم ضرباً من الوحدة حتى تتمكن الحكومة المركزية من التعامل معها. وقسَّمت الحكومة القيصرية هذه الأقليات إلى قسمين أساسيين: الأقليات السلافية (أوكرانيا وبولندا وغيرهما)، والأقليات غير السلافية، وكان أعضاء الجماعة اليهودية يصنفون على أنهم أقلية سلافية. وكان يُطلَق على الأقليات غير السلافية مصطلح "الإينورودتسي" inorodtsy. وهذه كلمة روسية كانت تشير في بادئ الأمر إلى قبائل السكان الأصليين التي تقطن سيبيريا، ثم اتسع نطاق الكلمة الدلالي، فأصبحت تشير إلى كل الشعوب غير السلافية. وكانت السياسة العامة تهدف إلى دمجهم. وغني عن البيان أن إجراءات الدمج، بالنسبة للأقليات غير السلافية، كانت أكثر راديكالية وعنفاً. وقد نجحت عملية دمج أعضاء الجماعات اليهودية في بادئ الأمر طالما كان الاقتصاد الروسي ينمو ويستوعب أعضاء الجماعة اليهودية الذين فقدوا وظائفهم القديمة المرتبطة بالاقتصاد القديم، إذ كانت توكل لهم وظائف جديدة بعد إعادة تأهيلهم. ولكن بعد فترة أخفق الاقتصاد الروسي في استيعابهم، ويعود هذا لأسباب عديدة لا مجال لذكرها في هذا السياق، لكن من أهمها الانفجار السكاني الذي حدث بين أعضاء الجماعات اليهودية وتعثر عملية التحديث، فصدرت قوانين مايو 1882 التي زادت من عزلة يهود روسيا واضطهادهم، وحدثت انفجارات أدت في نهاية الأمر إلى قيام الثورة البلشفية التي حلت مسألة يهود روسيا بطريقة مختلفة تماماً وغير متوقعة، إذ تم دمج أعضاء الجماعات اليهودية، أحياناً بالإقناع وأحياناً بالقوة، شأنهم في هذا شأن أعضاء الأقليات الأخرى. كل هذه العناصر والأبعاد تختفي في الأدبيات الصهيونية، فتعزل مسألة روسيا اليهودية عن سياقها وعن الظواهر المماثلة في المجتمع وعمّا يحدث للأقليات والجماعات الدينية والإثنية الأخرى، ويبدأ الصهاينة في الحديث عن "اضطهاد اليهود والمذابح التي تدبر ضدهم"، ويتحول التاريخ إلى ميلودراما رخيصة فيها أشرار خلص (الأغيار) وضحايا خلص! مما يؤدي إلى استحالة فهم المسألة اليهودية في روسيا القيصرية. والله أعلم.