في الخامس عشر من فبراير 2003 خرج نحو مليون شخص إلى شوارع لندن للاحتجاج على غزو أميركا الوشيك للعراق، في أكبر تظاهرة تشهدها المدينة في تاريخها. ولم يقتصر الأمر على لندن فقط، بل اندلعت تظاهرات مماثلة في كافة عواصم دول أوروبا الكبرى، ولم يكن المشاركون في التظاهرات يتبنون موقف أحد الجانبين، وإنما كانوا يعبرون فحسب عن كراهيتهم للحرب. وفي استطلاع للرأي أُجري حينئذ تبين أن 55% من الأميركيين يؤيدون شن الحرب إذا ما كان ذلك لـ"تحقيق العدالة"، بينما تراوحت تلك النسبة في العواصم الأوروبية بين 10 و20% فقط. وكان معنى تلك النتائج أن الأوروبيين يعتبرون اللجوء للقوة، لأي سبب من الأسباب، شيئاً من الماضي وبقايا بربرية القرن العشرين. لكن هل معنى هذا أن أوروبا هي القارة الوحيدة التي تميل للسلم وتتجنب العنف؟ هذا السؤال -وغيره من الأسئلة- هو ما يحاول "جيمس جي. شيهان" الإجابة عليه في كتابه "احتكار العنف: لماذا يكره الأوروبيون خوض الحروب؟". ومن ضمن ما يورده المؤلف من أقوال في معرض الإجابة على ذلك السؤال أن أوروبا قد "احتفظت بقدرتها على شن الحرب لكنها فقدت أي رغبة في الإقدام على ذلك"، وأن ذلك "شكل ثورة لا تقل دراماتيكية عن أي ثورة أخرى في تاريخها... وذلك بعد أن ذاقت ويلات الحرب وفقدت عشرات الملايين من أبنائها قبل أن تدرك أن الحرب لم تعد تجدي". ويرى المؤلف أن أوروبا، وحتى في الحالات التي اضطرت فيها إلى المشاركة في "تحالف الراغبين" لتنفيذ مهام محدودة في كوسوفو وأفغانستان والعراق، قد فعلت ذلك على مضض لأن زعماءها وشعوبها لم تكن لديهم شهية لخوض تلك الحروب، بعد أن تعبوا من القتل واخترعوا "الدولة الاقتصادية" بدلاً من "الدولة العسكرية" التي هيمنت على جزء كبير من تاريخهم. ويتقصى المؤلف السجل الأوروبي في السعي لتحقيق السلام الدائم بدءاً من اتفاقية لاهاي عام 1899، مروراً بمعاهدة فرساي عام 1918، ولا ينسى أن يُعرِج على معاهدة السلام المضمنة في ميثاق "برايان كيلوج" الذي تم توقيعه في العام السابق، وكان ينص في مادته الأولى على استنكار الدول الموقعة عليه للجوء للحرب، ثم على عصبة الأمم، والأمم المتحدة، والتحالفات الجديدة التي وضعت نهاية للحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي. وهو يقول في إحدى الفقرات "في حالات عديدة كانت الآمال النبيلة تتحطم على صخور الشوفينية، وتنهار أمام القوة الساحقة للمؤسسة العسكرية، لأن الأغبياء كانوا هم الذين يمسكون دوماً بمقاليد الأمور في كثير من الدول، ويدعون أن القاذفات قادرة على إنهاء الحرب. وبنهاية القرن كانت الكثير من تلك الدول التي يقع معظمها في أوروبا الشرقية تمتلك قوة نيرانية قادرة على إبادة كوكب الأرض أربع مرات على الأقل". ويقول أيضاً: "بحلول منتصف القرن الماضي كانت القوى الغربية قد أدركت أنها غير قادرة على خوض الحرب ضد الاتحاد السوفييتي، حتى لو كان الهدف هو إنقاذ الحرية الموءودة في المجر وتشيكوسلوفاكيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، لأن تكاليف ذلك ستكون رهيبة للغاية". وهو يرى أن القوى الغربية لم تتمكن من هزيمة الشيوعية في النهاية بقوة السلاح وإنما من خلال وسيلتين، هما جر الاتحاد السوفييتي إلى سباق تسلح منهك، واستخدام القوة الناعمة من أجل إثبات فشل التجربة الشيوعية وعدم قدرتها على تحقيق العدالة التي وعدت بها. وكانت أقرب المرات التي طبقت فيها الدول الغربية وسائل يمكن أن يقال إنها تقترب من العدوان هي تلك التي مارست فيها سياسات المقاطعة والحصار واستخدمت الكلمات كسلاح في معركتها مع الشيوعية. ويعتقد المؤلف أن "الحمولة العاطفية التي كانت ترتبط بالولاء للدولة تتوارى الآن تدريجياً لأن الشباب الحديث لم يعد قادراً على القبول بفكرة أن الولاء يحتم عليه التضحية بحياته من أجل الدولة". بمعنى آخر، فإن الذي حدث في نهاية القرن الماضي هو أنه لم يعد ينظر إلى الموت باعتباره بنداً من بنود العقد الاجتماعي بين المواطنين من جانب والدولة من جانب آخر. وبلورت أوروبا هذا التغير في الأفكار والمفاهيم، عبر إنشاء الاتحاد الأوروبي سعياً إلى جعل احتمال اندلاع حرب جديدة في القارة أمراً غير متخيل وغير قابل للتفكير فيه إطلاقاً، وذلك من خلال تحويل الأفراد، ليس إلى مواطنين مستعدين للقتل والموت، وإنما إلى مجرد مستهلكين ومنتجين. من هذه الناحية كان الاتحاد الأوروبي ناجحاً إلى حد كبير حيث انتقلت اليونان وإسبانيا والبرتغال وغيرها من بلدان وسط أوروبا، إلى دول ديمقراطية ليس عن طريق الثورة العنيفة، وإنما من خلال التغيير السلمي، بعد أن رفض الجنود في شوارع تلك المدن، والذين كانوا يمسكون بالسلاح ويحتكرون استخدام العنف، وإطلاق الرصاص على المتظاهرين وإغراق الشوارع بالدماء. ونظراً لأن أوروبا ليست سوى قارة واحدة من بين ست قارات، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: متى تفعل بقية القارات نفس الشيء؟ مؤلف الكتاب في معرض محاولته للإجابة على السؤال، يرى أن بقية القارات -خاصة أميركا الشمالية- قد ترى أن الوقت لم يحن بعد أو أنه ما يزال من المبكر للغاية أن تتخلى عن التلويح بالسلاح أو أن تجنح للسلم كما فعلت أوروبا. ـــــــــــــــــــــ سعيد كامل الكتاب: احتكار العنف: لماذا يكره الأوروبيون خوض الحروب؟ المؤلف: جيمس جي. شيهان الناشر: فيبر آند فيبر تاريخ النشر: 2008