لم تخلُ إدارة الرئيس "ريجان" من البراجماتيين ولا ممن تطلق عليهم أحياناً صفة الأيديولوجيين، حيث عمل في أروقتها كل من "جيمس بيكر"، البراجماتي المعتدل، و"إيد ميس"، الأيديولوجي المتشنج. والأكثر من ذلك لم يقتصر فوز "ريجان" في الانتخابات التمهيدية على الولايات المعتدلة مثل "كونيكتكيت" و"ويسكونسن" و"واشنطن"، بل فاز أيضاً في الولايات المعروفة بنزعتها المحافظة مثل "وايومينج" و"كارولينا الجنوبية". لكن سرعان ما تغير الوضع وتقلصت دائرة الحزب "الجمهوري" بعدما انتشرت المؤسسات المحافظة وجماعات الضغط في واشنطن؛ كما ضاق تعريف من هو المحافظ الحقيقي، بحيث بات من الضروري اجتياز اختبار قاسٍ لاستكشاف مواقف الأشخاص حول الهجرة والإجهاض والضرائب وغيرها من الموضوعات الخلافية. وفي خضم هذا الوضع استقرت عقلية الخلاف من أجل الخلاف وسادت في صفوف الحزب "الجمهوري"؛ فإذا كان الليبراليون منزعجين من ظاهرة الاحتباس الحراري ويحذرون من أخطارها على مستقبل كوكب الأرض، فإنها بالنسبة للمحافظين مجرد خدعة سمجة. وإذا عبرت افتتاحية "نيويورك تايمز" عن قلقها إزاء تقنيات الاستنطاق المستعملة مثل الإيهام بالإغراق فإن المحافظين لا يرون في ذلك إلا أمراً عادياً. وكل مختلف مع هذه المواقف، أو معارض لها حتى لو كان من داخل معسكر المحافظين يتم طرده من الحزب "الجمهوري" لخروجه عن الحدود المقبولة التي وضعها الأيديولوجيون. وهكذا تم طرد المحافظين المعتدلين من صفوف الحزب كما غادر الملايين من الأعضاء بعدما تقوقعت أفكاره وتشددت. ومع ذلك استمر الحزب في تبني المواقف الأيديولوجية المغلقة والأفكار الجامدة والمترهلة إلى درجة أن العديد من المحافظين يستكثرون على المرشحين الجمهوريين "مايك هوكابي" و"جون ماكين" صفة كونهما محافظين حقيقيين. وهو ما عبر عنه مقدم البرامج الإذاعية "راش ليمبو" في برنامجه الأخير قائلاً "أنا هنا لأقول لكم إنه لو حصل أي من المرشحين هوكابي وماكين على تزكية الحزب الجمهوري، فإن الحزب سيتغير إلى الأبد وسينتهي دون رجعة". أما بالنسبة للمساهمين في مدونة "ذي كورنر" بصحيفة "ذي ناشونال ريفيو" المحافظة فإنهم يعتبرون أن "فريد تومسون" و"ميت رومني" فقط جديران بتمثيل الحركة المحافظة دون غيرهما، وقد وصل كرههم للمرشح "ماكين" إلى درجة أنهم أطلقوا عليه أقذع النعوت والصفات. لكن على رغم كل ذلك يبدو أن شيئاً لافتاً حدث خلال الانتخابات التمهيدية الأخيرة، حيث استنكف الناخبون المحافظون عن اتباع قادتهم ليتبين أن المحافظين أكثر تنوعاً من الصورة التي تسعى المؤسسة الرسمية المحافظة إلى حشرهم فيها. ففي ولاية كارولينا الجنوبية اعتبر 34% من الناخبين الجمهوريين أنفسهم "محافظين للغاية"، فيما اعتبر 34% آخرون من الناخبين الجمهوريين أنهم "محافظون إلى حد ما"؛ وأشار 24% إلى أنفسهم كـ"معتدلين". ومن بين المستجوبين في الانتخابات التمهيدية بالولاية فقط نسبة 28% ممن اعتبروا أن الإجهاض يتعين أن يكون "غير شرعي على الدوام"، ولنتذكر أن تلك النتائج ظهرت في كارولينا الجنوبية، إحدى أكثر الولايات يمينية في أميركا. وفي الوقت الذي هدد فيه بعض المحافظين المتشددين بالانتقال إلى ولاية أيداهو، إذا حصل "ماكين" و"هوكابي" على ترشيح الحزب الجمهوري، يبدو أن الأغلبية الصامتة من الناخبين المحافظين فضلت المرشحين المذكورين ومنحتهما ثقتها. فقد نجح "هوكابي" في اجتذاب أصوات الناخبين المسيحيين المتدينين، رغم أنه حاد عن السياسة الاقتصادية المعروفة للمحافظين والقائمة على خفض الضرائب وتقليص دور الدولة في الاقتصاد. ومن ناحيته أحرز "ماكين" تقدماً واضحاً على الصعيد الوطني، حيث تصل نسبة شعبيته إلى 71% مقابل 23% من الآراء السلبية، كما حصل "ماكين" على 63% من المواقف الإيجابية بين مؤيدي "هوكابي" و66% بين مناصري "رومني"، فضلاً عن 81% في صفوف مساندي "رودي جولياني". والأكثر من ذلك استطاع "ماكين" استمالة فئات واسعة من الناخبين في ولاية كارولينا الجنوبية. وإذا كان قد خسر أصوات المتدينين الذين يذهبون إلى الكنيسة أكثر من مرة في الأسبوع، إلا أنه فاز بأصوات من يذهب مرة في الأسبوع، كما توزعت الأصوات التي حصل عليها في كارولينا الجنوبية بين مؤيدي إدارة الرئيس بوش وبين المستائين منها، فضلاً عن أصوات الشرائح الاجتماعية التي يفوق دخلها 30 ألف دولار في السنة. والحقيقة الماثلة أمامنا في خضم كل ذلك أن المؤسسة المحافظة تمر بسنة سيئة للغاية بعدما تعثر "فريد تومسون"، الذي كان يعول عليه لتجسيد سياسة الحزب الجمهوري. وقد تراجع أيضاً المرشح "جولياني" بعد أن فشل خطابه الاقتصادي المستند إلى خفض الضرائب في استثارة الجمهور، بل حتى "رومني" الذي ترشح باسم الحركة المحافظة في "أيوا" و"نيوهامشير" أخفق في إقناع الناخبين. واليوم يبدو أن "رومني" الذي مني بهزيمة قاسية في الولايتين السابقتين قرر التخلي عن الخط الأيديولوجي المتزمت للمحافظين والتركيز بدلاً من ذلك على ما هو براجماتي ويهم الناخبين، وهو ما يفسر لمَ بدأت حملته الانتخابية تنفتح على إمكانات واعدة. ولعل العبرة المستخلصة من هذا الالتباس الواضح الذي يعتري الحزب الجمهوري في مسيرة الانتخابات التمهيدية لا يكمن في تقادم المؤسسة المحافظة وقرب دخولها مزبلة التاريخ، بقدر ما يكمن في إنكار حالة التنوع داخل الحزب والإصرار على اتباع نهج تيار بعينه. لكن يبدو أن الجمهوريين العاديين لا يتخوفون من التفكير المستقل المختلف أحياناً عن توجيهات القادة المحافظين، بل يتسع صدرهم لجميع ألوان الطيف سواء من المحافظين المعتدلين، أو نظرائهم الأرثوذوكسيين المتشددين. وهذا التيار المحافظ الجامع الذي لا يقصي أحداً من أبنائه، بدعوى الابتعاد عن الروح الحقيقية للتيار، هو ما تحدث عنه "ماكين" في خطاب النصر الذي ألقاه أمام مؤيديه بولاية كارولينا الجنوبية قائلاً: "إننا نريد حكومة تؤدي وظيفتها، لا وظيفتنا، على أن تقوم بذلك على أحسن وجه وبالاعتماد على أقل قدر من أموالكم. ونريد منها أن تحمي الأمن القومي بحكمة وكفاءة لأن تكلفة حمايتنا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا. ونريد من الحكومة أيضاً أن تحترم قيمنا لأنها المصدر الحقيقي لقوتنا؛ وأن تعزز سيادة القانون لأن ذلك أول خط في الدفاع عن الحرية؛ وأن تفي بالوعود التي تقطعها على نفسها على ألا تعد بما لا تستطيع الوفاء به". ــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"