تزامنت زيارة بوش الأخيرة للمنطقة مع انعقاد دورة في القاهرة لعدد من الدبلوماسيين الأفارقة، وكان موضوع الدورة التي تنعقد سنوياً منذ حوالي أحد عشر عاماً، هو النزاعات العالمية وسبل تسويتها. من تجربتي في مثل هذه الدورات -سواء هنا أو في الخارج- أدركت أهمية أن يتم التركيز على ما يسمى في حقل العلاقات الدولية "السياسات العليا" High Politics، سواء كانت العلاقات بين الهند وباكستان أو ليبيا وتشاد، بدلاً من الحديث عن الخلافات داخل منظمة التجارة العالمية أو الأوبك، أو ما يعرف بالسياسات الدنيا (Low Plitics). لم يخب ظني فيما يتعلق بنوعية المنازعات التي تم اختيارها للتحليل، لكن ما أدهشني وأثار إعجابي في نفس الوقت هو أسلوب معالجة هذه النزاعات وإدارتها، خاصة ما أستطيع تسميته "الجانب الخفي"Cor action. وكان المثل الذي تم التركيز عليه مراراً وتكراراً هو أحداث 11 سبتمبر 2001، وهل تخطيط الهجوم الإرهابي على كل من نيويورك والبنتاجون في واشنطن بهذه الدقة، هو من عمل منظمة مثل "القاعدة" بمفردها؟! وهل يجب أن نستبعد مثلاً فرضية أنه تم وضع "فخ" لهذه المنظمة ومساعدتها من بعض أجهزة الاستخبارات –"الموساد" مثلاً- لكي تلحق أكبر الضرر بالعلاقة بين العرب والأميركيين على المستوى الشعبي؟ وأنه من خلال ذلك أيضاً تمكّن "المحافظون الجدد" في واشنطن من تنفيذ مخططهم في غزو أجزاء العالم المختلفة، ثم تلطيخ صورة الإسلام في النهاية؟ كان هذا التصور من جانب بعض الدبلوماسيين الأفارقة تجسيداً لما نسميه نحن هنا في المنطقة العربية بـ"نظرية المؤامرة"، وهذه النظرة للتاريخ لا تقتصر علينا، بل هناك كتاب فرنسي شهير ظهر منذ نحو ثلاث سنوات يؤكد أن هجوم سبتمبر الإرهابي هو من تدبير بعض أجهزة المخابرات داخل الولايات المتحدة نفسها. ورغم أننا لا يجب أن نعطي مصداقية كبيرة لمثل هذا الكتاب، خاصة أن بن لادن وجه تهنئته للمنفذين واعتبرهم شهداء، فإننا لا يجب أن نهمل الجانب الخفي أو الاستخباراتي في النزاعات الدولية، سواء في نشأتها أو تتبع مسارها. كان نقاشي حامياً مع هؤلاء الدبلوماسيين الأفارقة لكي أمنع أن يسرح الخيال أكثر من اللازم ويصل إلى شطط غير قائم على أية أدلة مقنعة. وفي الواقع فإن اكتشاف وتحليل بعض أحداث التاريخ على أساس الجانب الخفي أو الاستخباراتي يعاني من هذه الصعوبة الكبيرة، أي عدم وجود الأدلة إلا بعد سنوات طويلة، أما إذا ظهرت الأدلة في وقت الحدث، فإن العمل الاستخباراتي يكون قد فشل فعلاً وبالتالي يكون من السهل إحباط مفعوله. تزاحمت هذه الأفكار حول العمل الخفي أو الاستخباراتي -بما في ذلك ما يسمى بالأجندة الخفية- أثناء تتبعي لأخبار المنطقة بعد مؤتمر "أنابوليس" منذ أقل من شهرين، ثم زيارة بوش للمنطقة، وأخيراً ما يحدث في غزة حالياً وما قد يترتب عليه من إعادة هيكلة المنطقة. وقد كتبت هنا في "وجهات نظر" وأثناء الهوجة العارمة خلال انعقاد "أنابوليس" لكي ألفت النظر لما قد يكون وراء الستار، واستشهدت في هذا الصدد بكتاب مهم لمؤلف إسرائيلي عن "نهاية القضية الفلسطينية" وقد نشر عام 1998. بالطبع كتابتي آنذاك عن "نهاية القضية" بينما أجهزة الإعلام والفضائيات العربية والدولية تمطرنا بتفاصيل المجتمعين في "أنابوليس"، كان "تغريداً خارج السرب". ورغم ما يحدث الآن من حصار وتجويع في غزة وحتى القضاء على حكومة "حماس"، فإني لا أعتقد أن "القضية ستنتهي". سيتم بالطبع تغيير الأجندة، ويصبح البند الأساسي هو إعادة الكهرباء والماء، وحتى تخفيف أعباء الحياة اليومية، أي التخدير، وذلك بدلاً من النواحي الاستراتيجية؛ مثل الحدود والدولة الفلسطينية والمستوطنات والمياه... ألم نقل إن الجانب الخفي أو الاستخباراتي يجب -رغم صعوبته- تتبع مساره لفهم جوهر الكثير مما يحدث في التاريخ قديماً وحديثاً؟