لم أجد مدخلاً للكتابة عن جولة بوش في المنطقة، خيراً مما كتبه الأستاذ راشد العريمي بعنوان "خطاب بوش وبكائية الجُزر"، حول سلوكيات وتوجهات بعض الكتاب "المتنطعين" الذين يقيمون مناحات بمناسبة وبغير مناسبة، وذلك في معرض انتقاد خطاب بوش الذي ألقاه في "قصر الإمارات" بأبوظبي ولم يتعرض لموضوع الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من قبل إيران "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى". لقد تساءل الكاتب: لماذا الإصرار الدائم على افتعال قضية حين لا تكون هناك قضية؟ وأجاب: يبدو أن السبب أحد أمرين: إما تصورات مسبقة وأجندات أمليت على هؤلاء الكتاب، وإما تطفل من الباحثين عن الشهرة والأضواء، وبدون أي اعتبار للذوق والأخلاق. وهذا صحيح تماماً وأود أن أضيف أسباباً أخرى، فقد كانت زيارة بوش للمنطقة فرصة ثمينة للتنفيس وإخراج المكنونات النفسية لاتجاهات ثلاثة: 1 - أحزاب وجماعات التكسب السياسي: ويمثلها "الإخوان" في مصر والبيان الذي أصدره مرشدهم العام، كما أعلن الحزب الناصري عن تنظيم احتجاج ضد الزيارة، وكذلك قالت لجنة الحريات في نقابة الصحافيين المصريين والمحامين... فهؤلاء يعتقدون أنهم بهذه السلوكيات المظهرية يعلون مكانتهم جماهيرياً، ولو كانوا على شيء من الوعي السياسي لتريثوا ودرسوا الموقف وانتظروا مجيء رئيس أعظم قوة اقتصادية وعسكرية لها مع مصر علاقات قوية وبفضلها استعادت مصر أرضها وقناتها وجنبت نفسها غوائل الدمار، ولولا المساعدات الأميركية ما نهض الاقتصاد المصري، وما صلحت البنية التحتية للقاهرة.. ولكن هؤلاء قوم لا يخجلون! فهل "لجنة الحريات" بنقابة المحامين والصحفيين، كانت ستتظاهر لو كان "صدام" صاحب "المقابر الجماعية" حياً وزار مصر؟! 2 - دعاة الكراهية: وهؤلاء صنوف شتى تحكمت فيهم عقد الكراهية ضد كل ما هو أميركي. هم يكرهون لمجرد الكراهية، ويعارضون لمجرد المعارضة. وكما نقل الدكتور عبدالله العوضي في سؤال لأحد رموزهم: لو أن بوش قام بحل مشاكل فلسطين والعراق وأفغانستان... هل تنتهي معارضتكم له؟ فأجاب بالنفي القاطع. هؤلاء سيظلون محكومين بعقدة "الشيطان الأكبر"، ولا شفاء لهم إلا إذا جاءهم "الموت الأحمر" كما جاء قرناءهم في النظام العراقي السابق. وإذ يتحدثون عن "جرائم بوش"، فماذا بقي لصدام وأتباعه وبن لادن وأنصاره؟ وماذا بقي لنظام الملالي في إيران؟ إنها ألسنة تنضح بالكراهية، وتعض يد التعاون والمساعدة، إنها حرب الولاءات والتمويل لا غير! لكن لولا أميركا لذُبح المسلمون في البوسنة وكوسوفو، ولولاها لما انزاح كابوس "طالبان" ونظام صدام ولما تحررت الكويت... لكن الكراهية حين تستوطن النفوس تعمي أصحابها وتقودهم إلى إطلاق تصريحات بدون تبصر! ها هي "إيران" التي يحامون عنها وتغدق عليهم أموال الشعب البائس، تئن تحت وطأة انقطاع الغاز! هل هذا يعقل بالنسبة لدولة تتمتع بموارد وخيرات لا تملكها دولة أخرى في العالم؟ لو أنصفوا لقالوا ما لأميركا وما عليها، أما لغة الشتائم والطعون والتجريح والتحريض والكراهية، فلا تليق بمن يتصدى للعمل العام. على هؤلاء أن يتعلموا كيفية التعامل مع القوة العظمى، كما فعلت الدول الخليجية فأسعدت شعوبها وصنعت صورة اقتصادية وسياسية مشرقة في العالم العربي. التصريحات "النارية" ولغة "العنتريات" شقيت بها شعوبنا وآن لها أن ترحل، فما أطعمت شعباً ولا كست عارياً، ولا أمّنت من خوف. وما يحصل في "غزة" من مجازر دامية وتجويع، سببه تلك "العنتريات" الفارغة... وهي التي أوصلت إيران إلى وضع بائس أصبح يطال تعاملاتها البنكية في الخارج...! 3- أصحاب النضال الأيديولوجي، أو بقايا "اليسار"، وهؤلاء يترصدون أية مناسبة فيها رائحة أميركية، ليطلوا عبر الفضائيات والصحف وليقولوا كلمات جوفاء ويرددوا شعارات انتهت صلاحياتها... أحدهم كتب يقول عن جولة بوش: "عاد مفلساً من زيارته الأولى للشرق الأوسط بعد أن فشل في حشد تحالف عربي ضد إيران"! ويبقى أن نناقش "لازمة" تكررت كثيراً في الكتابات العربية وهي أن زيارة بوش للمنطقة جاءت في "الوقت الضائع"، ولا أدري من اخترع هذه الكذبة، لكن يبدو أن خصوم بوش من الأميركيين هم الذين أطلقوها ثم تلقفها بعض الكتاب العرب. وعلاوة على أن أميركا دولة مؤسسات، فإن هؤلاء الذين يرددون حكاية "الوقت الضائع" يتغافلون جملة من الحقائق، منها: 1- بروز "الخليج" كقوة اقتصادية وسياسية فاعلة ومؤثرة على الساحة العربية والدولية، فالخليج اليوم ليس الخليج قبل عدة سنوات، الخليج اليوم يمثل محور "الاعتدال" العربي و"العقلانية" و"الواقعية" في سياساته وعلاقاته الخارجية. لقد نبذت دوله منذ زمن طويل سياسة "المناطحة" و"ركوب الرأس" والتفتت إلى البناء والتنمية والإبداع وصنع التقدم. وكما يقول تقرير أميركي نشر في "نيوزويك"، فإن "دول الخليج تعيش أفضل أزمنتها على الإطلاق، الأعمال مزدهرة، والنزاع السياسي أصبح ظاهرة خارجية تشاهد على شاشات التلفزيون في غرف الجلوس المبردة في الدوحة ودبي والكويت ومسقط والرياض". لذلك كان لا بد للرئيس الأميركي أن يأتي ليشاهد إنجازات الدول الخليجية عن كثب، وهذا سر دهشته وإعجابه بالتقدم الحضاري الذي شاهده في الإمارات إلى درجة الانبهار، فقال لشبكة "فوكس نيوز" إن التقدم الحضاري في دولة الإمارات "غير معقول". وكما عبّر الكاتب الإماراتي محمد الحمادي بصدق حين قال "زيارة بوش الصحراوية والميدانية لأبوظبي ودبي تكمن أهميتها في حصوله على فرصة حقيقية للإطلاع على واحدة من دول الشرق الأوسط غير العراق المتخم بالعمليات الانتحارية وغير الأراضي الفلسطينية المحتلة التي لا يتوقف فيها القصف والقتل وغير لبنان الذي فشل سياسيوه في إنقاذه وغير إيران التي تلاعب أميركا والعالم وتستفز جيرانها... إنها فرصة كي يرى بلداً عرف قيمة الإنسان واحترم آدميته، بلداً فيه تنمية اقتصادية وعمرانية كبيرة". 2- حصول مراجعة واقعية للسياسات الأميركية التي سادت المنطقة بعد أحداث "11/9"، فأميركا في بدايات انقشاع الغمامة، وبعد 7 سنوات أصبحت تتجه نحو سياسة واقعية أكثر انفتاحاً وتفهماً لتضاريس الخريطة الاجتماعية والثقافية والسياسية للمنطقة. لقد كانت أسيرة "وهم" مستحكم بأن تغيير الأوضاع نحو الديمقراطية هو الحل للمشكل الإرهابي، وأثبتت الأحداث الدامية أن القضية أعمق من ذلك بكثير. لقد استطاع محور الاعتدال العربي إقناع بوش أن "قضية فلسطين" تشكل البؤرة العظمى للتوتر في المنطقة ويستغلها "دعاة الكراهية" في الترويج لثلاثة أمور: "الفكر المتطرف وتجنيد الشباب له"، "معاداة أميركا"، و"تخوين الأنظمة العربية المعتدلة". لقد استطاع "الاعتدال العربي" تغيير موقف بوش إزاء الفلسطينيين ومن هنا وجدنا التغير الملحوظ في خطابه وتصريحاته من أنه واثق من تحقيق حل الدولتين قبل نهاية ولايته. ورأينا أيضاً تبدلاً في السياسة الأميركية فيما حصل من دعم لمجالس "الصحوة"، وقد اعترف بوش بأن استراتيجيته في العراق كانت غير ناجحة حتى العام الماضي. 3- أما السبب الثالث لمجيء بوش فهو طمأنة الخليجيين إزاء تزايد نفوذ إيران وتغلغلها في المنطقة من أنه لا وجود لصفقات مقايضة على حسابهم، كما زعم المغرضون، بل جاء ليقول: نحن معكم ولن نترككم وحدكم.