بدأت في السعودية في الآونة الأخيرة ترتفع الأصوات محذرة من عودة ظاهرة العصبية القبلية، وخطر هذه الظاهرة على الوحدة الوطنية. لكن اللافت أن الردة إلى القبلية تبدو ظاهرة على المستوى العربي، وتمتد من المشرق إلى المغرب. فالقبيلة عادت لتصبح فاعلة في الانتخابات الكويتية، وهي كانت ولا تزال في الانتخابات الأردنية. في هذين البلدين أصبحت القبيلة داخل المؤسسة البرلمانية قوة سياسية يحسب لها الشيء الكثير. ووفقاً لما ذكره لي أحد المثقفين الليبيين، تشهد ليبيا منذ سنوات عودة قوية للحمية العشائرية باعتبارها الملاذ الأكثر فعالية لحماية الفرد من تعديات الآخرين. أما في العراق فقد برزت القبيلة بشكل غير مسبوق لتصبح الرقم الصعب في المعادلة السياسية هناك بعد سقوط النظام السابق تحت الاحتلال الأميركي. في لبنان تأخذ القبيلة شكل العائلة أو العشيرة اجتماعياً، وشكل الطائفة دينياً. نحن هنا أمام بنية اجتماعية عشائرية تستظل بظلال الشرعية المذهبية. كانت العائلة ولا تزال في لبنان هي المؤسسة السياسية الأقوى والأعرق في إطار الطائفة التي تنتمي إليها. في اليمن ورغم النجاحات التي حققتها الدولة في السنوات الأخيرة أمام القبيلة، لا تزال الأخيرة تمثل قوة سياسية فاعلة. هذه وغيرها من المؤشرات على القبلية، أو الردة إلى القبيلة، تفرض التساؤل عما حصل للدولة العربية. بروز القبيلة ونجاحها في فرض رموزها وخطابها كي تكون جزءاً من الخطاب الثقافي للمجتمع، يعني ضمن ما يعنيه ضعفا في خطاب الدولة وما ترمز إليه. ومن ثم يأتي التساؤل هنا من حقيقة أن بروز القبيلة في إطار الدولة، يعني أن خللاً ما أو ضعفاً أصاب هذه الدولة خلال مسيرتها الطويلة في المنطقة. هذا سؤال يتطلب مقاربة تتناسب مع حجمه وأهميته، ولذلك سأقتصر على مقاربته هنا على حالة الدولة السعودية دون غيرها. وهذا ليس فقط بحكم المساحة المتاحة، لكن أيضاً بحكم أن معرفتي بتاريخ الدولة السعودية تسمح لي أكثر من غيرها. سأنطلق في مقاربتي للموضوع من مسلمة تاريخية، ومن فرضية نظرية. المسلمة التاريخية تؤكد أن العلاقة بين القبيلة والدولة هي دائماً علاقة تناقض، وليست علاقة تكامل. كل منهما تحمل العناصر التي تنقض أساس الأخرى. نظرياً على الأقل، الدولة هي كيان سياسي قانوني، وبالتالي فالانتماء إليها هو بالضرورة انتماء سياسي وقانوني أيضاً. في المقابل القبيلة هي في الأساس كيان اجتماعي سياسي، وليس كيانا قانونيا، والانتماء إليها هو في الأساس انتماء اجتماعي (من خلال علاقة النسب)، وليس انتماءً سياسياً أو قانونياً. لا يتحقق انتماء الفرد للقبيلة إلا من طريق واحد، طريق الأب. من دون ذلك لا يتحقق الانتماء. في حالة الدولة، الأمر على العكس من ذلك تماماً. يتحقق انتماء الفرد للدولة من خلال إجراءات قانونية وبيروقراطية معينة، تنتهي بإعطائه الجنسية بغض النظر عن عوامل النسب. هناك عنصر آخر يؤكد علاقة التناقض بين الاثنين. ففي الوقت الذي تقتصر فيه سلطة القبيلة على داخل حدود مجتمعها الذي يتكون من أفراد يرتبطون فيما بينهم بعلاقة الانتساب إلى جد واحد، أو داخل حدود القبيلة، تنظر الدولة إلى سلطتها على أنها سلطة شاملة، يجب أن يخضع لها الجميع، أفراد وجماعات، ومؤسسات. وانطلاقاً من هذه السلطة تحتكر الدولة مشروعية امتلاك واستخدام أدوات العنف أو التهديد بها، ولا تسمح لأي كان بمشاركتها في ذلك، إلا بإذنها وتفويض منها. لكن حتى يتسنى للدولة كل ذلك لا بد أن تحظى سلطتها بالقبول من المحكومين، وبالتالي لا بد أن تتأسس هذه السلطة على شكل من أشكال الشرعية. قد تأخذ الشرعية شكل الإنجاز، أو الشرعية التاريخية، وقد تكون شرعية قانونية، أو شرعية أيديولوجية تحظى على الأقل بشيء من الإجماع، أو ربما تجتمع كل تلك الأشكال في صيغة سياسية وأيديولوجية واحدة. في الوقت نفسه قد تلجأ الدولة في حالة عدم تمتعها بأي صيغة من تلك الصيغ إلى العنف لفرض سلطتها على المجتمع. وفي كل الأحوال، لا يكتمل بناء الدولة من دون أن تنتج خطاباً سياسياً وثقافياً يعكس طبيعتها، وسلطتها، والشكل الأيديولوجي الذي يمثلها... خطاب ينتظم علاقة هذه الدولة بمكونات المجتمع الذي يخضع لسلطتها. من هنا فإن بروز القبيلة، وبروز القيم والرموز القبلية هو في أدنى درجاته بروزٌ لخطاب القبيلة إما بتواز مع، أو على حساب خطاب الدولة. وفي كلا الحالتين، وبغض النظر عن كل ما يقال من تبريرات، يمثل بروز القبلية ردة عن الدولة، وافتئات على شمولية سلطة هذه الدولة، وعلى شمولية خطابها الثقافي والسياسي. من هذا المنطلق تمثل العودة للعصبية القبلية في المجتمع السعودي شيئا من المفارقة. فالدولة السعودية، وهنا نأتي إلى الفرضية النظرية، قامت في الأساس، وفي بداياتها الأولى، نتيجة لتصدع القبيلة في حاضرة نجد في القرن 12 الهجري/ 18 الميلادي. ولإعطاء شيء من التوضيح ربما تجب الإشارة، ومن دون تفاصيل لا يتسع المجال لها هنا، إلى أنه في معادلة العلاقة بين القبيلة والدولة في المشرق العربي، يمكن القول بأنه في الحالة السعودية كانت ولا تزال الدولة هي الطرف الأقوى في هذه المعادلة، مقارنة مع دول أخرى، خاصة اليمن والأردن، بل وحتى العراق. يعود ذلك على الأرجح إلى عوامل عدة، منها أن العائلة السعودية الحاكمة لا تنتمي إلى أي من القبائل الحديثة التي كانت في تنافس أو صراع من منطلق العصبية القبلية فيما بينها في الجزيرة العربية. على العكس من ذلك، ينتمي آل سعود إلى القبيلة العربية القديمة، بني حنيفة. وهذه قبيلة تصدعت وانحلت عصبيتها منذ قرون بسبب أنها كانت حسب المصادر التاريخية أول قبيلة استقرت وامتهن أبناؤها الزراعة في نجد منذ ما قبل الإسلام بما لا يقل عن مائتي سنة. يفسر هذا الانتماء الاجتماعي للأسرة الحاكمة كيف أن الدولة السعودية منذ نشأتها الأولى في أواسط القرن 18 لم تكن دولة قبلية، أو دولة مرتهنة لقبيلة بعينها دون غيرها. وليس في المصادر التاريخية ما يشير إلى أن شكوى القبائل من هذه الدولة قد اتخذ في أي مرحلة من المراحل بعداً قبلياً. كانت القبائل مثلاً تشتكي من شدة وطأة الدولة السعودية الأولى عليها، لكن لأسباب ليس فيها ما يشير إلى هوية الدولة القبلية، وإنما تتعلق بمصالح تلك القبائل في مواجهة دولة تريد أن تبسط سيطرتها وسلطتها، وأن تخضع تلك القبائل لهذه السلطة. ولعل هذا من أهم الأسباب التي مكنت الوالي العثماني في مصر محمد علي من استمالة بعض القبائل في الجزيرة العربية أثناء حملته العسكرية ضد الدولة السعودية، والتي انتهت بسقوط هذه الدولة في أوائل القرن التاسع عشر. غياب عنصر العصبية القبلية من هوية النسب الاجتماعي للعائلة السعودية الحاكمة ساعدها في أن تبدو في المنتصف بين العصبيات القبلية في الجزيرة. يضاف إلى ذلك الجذر الحضري للعائلة، وهو جذر ساعدها من ناحية أخرى في أن تكسب إلى جانبها الكثيرين من سكان الحواضر. والأرجح أن كل ذلك سهل لهذه العائلة مهمة قيادة عملية تأسيس الدولة. لكن هناك عاملا آخر لا يقل أهمية، بل ربما يفوق تلك العوامل في أهميته، خصوصاً من حيث أنه كان اللحمة التي جمعت تلك وغيرها من العوامل، ومنحتها المشروعية والمعنى الجامع في سيرورة الدولة، وأعني بذلك الأيديولوجيا الدينية. فالدين كان ولا يزال أحد أهم مصادر شرعية الدولة، مما سمح لها بالاستقلال الأيديولوجي عن القبيلة، ومنحها شرعية لا تستطيع القبيلة الاعتراض عليها، بل وجدت القبيلة نفسها مرغمة على القبول به، الأمر الذي أفسح المجال أمام الدولة في أن تكون المؤسسة السياسية الأقوى في مواجهة القبيلة. يأتي بعد ذلك قدرة الدولة على الاستمرار وتحقيق التراكم السياسي لأكثر من قرنين ونصف القرن. صحيح أنه كان هناك انقطاع في استمرارية الدولة، من حيث أنها سقطت مرتين. لكن الصحيح أيضاً أنه لم تقم مكانها دولة أخرى، بل قامت الدولة نفسها مرة ثانية، وثالثة، الأمر الذي حقق لها استمرارية تاريخية، نتج عنها تراكم سياسي. بهذه السيرورة ينبثق نظام الحكم من داخل المجتمع، متناغماً مع طبيعته التقليدية، وبالتالي فقد احتفظ بهيبته أمام القبيلة. كيف يمكن إذن تفسير عودة خطاب القبيلة، والعصبية القبلية في هذه الحالة؟