على غير ما يقع من أمور وقدرات في دوائر إرادتها لا تستطيع الدول الهرب من الجغرافيا. تستطيع الدول أن تبدل سياساتها, وأيديولوجياتها, ونظمها الاقتصادية. تستطيع أن تهرب من تاريخها, إن كان فيه ما يدعو للهرب, لكن الجغرافيا قدر من الأقدار العنيدة مستحيلة التغيير. والجغرافيا أيضاً كانت مستنبت حروب وصراعات طاحنة, فعلى عكس ما تقرره وجدانيات القيم والأعراف الإنسانية من أفضلية الجار على غيره, فإن حروب الجيران هي أكثر ما ميز النزاعات بين البلدان والإمبراطوريات. ففي أول المطاف ونهايته، أعراف الدول وأخلاقها لا تنتظم وفق ما تسير عليه أعراف الأفراد وأخلاقياتهم. وعندما تدرك الدول استحالة زحزحة الجغرافيا واستحكام منطق حتمية الجوار وتأهبه الدائم لفرض صراعات وتنافسات, فإنها أمام خيارين: إما الوقوع في أسر ذلك المنطق والانجرار إلى سيرورة لا تنتهي من العداء والتنافس والحروب, لأن حتمية التجاور مع من هم وراء الحدود القريبة لا مناص منها, أو, الخيار الثاني, أن تضرب بسيف الأسكندر قلب ذلك المنطق وتقفز أمامه. ما معنى ذلك وكيف؟ معناه وكيفيته, وبعيداً عن التنظير, ماثل في تجربة القارة الأوروبية حيث تحكّم منطق حروب الجيران قروناً عدة فولّد كل أنواع الحروب: الترابية, المصلحية, الثرواتية, والدينية, وكان تتويجها بحربين عالميتين طاحنتين سقط جراءهما مئات الملايين. كان الدرس القاسي والدموي بليغاً ومفاده أن على الدول أن تستوعب منطق الجغرافيا والجوار حتى مع الأعداء وتتصالح معه ومعهم، وإلا فإن دوامة الحروب والصراعات لن تنتهي. وعندما استوعب ذلك الدرس قفزت أوروبا أمام منطق الانجرار الدائم إلى حروبها مع الجيران, وعوض ذلك تصالحت معهم ومع نفسها. وطوت العداوات الألمانية, الفرنسية, البريطانية, الروسية, البولندية تواريخها، وتطلعت لصيغة أخرى من التعايش. انضوت تلك البلدان في منظومات اقتصادية وأمنية إقليمية ناغمت بين مصالح البلدان المتناقضة, وشذبت تصادماتها, وعززت ما هو مشترك بينها من تجارة واقتصاد وتبادلات بينية أخرى, وبالمجمل طرقت بمطرقة المصالح المشتركة على نتوءات الصراعات التاريخية فسوَّتها بالأرض, أو كادت. جغرافيا إيران ودول الخليج تتحكم في الطرفين, ولا مهرب لهما إلا إليها. وهناك في ضوء تجربة التاريخ خياران: الأول استمرار منطق الخوف والترقب وربما الصراعات المستقبلية وتدخل القوى الكبرى في حروب قد تحدث وقد تجر دماراً لا يستثني أحداً. والخيار الثاني اختصار الطريق والتعلم من درس التاريخ لتوفير كلفته الغالية, والاحتواء الوقائي لأي تدهور مستقبلي ومحتمل جداً. وهذا الاحتواء المتبادل يُترجم على شكل نظام إقليمي يجمع دول الخليج وإيران والعراق, على أقل تقدير, يكون جوهره الحفاظ على أمن واستقرار هذه الدول وتفادي الحروب, وعلى قاعدة أن أي حرب قادمة ستكون كلفتها كبيرة على الجميع, ونزيفها سيستنزف ما تبقى من قدرات الدول ويعطل تنميتها واقتصادها. ودول الخليج في هذا الصدد عليها الآن مسؤولية المبادرة, لأنها الخاسر الأكبر من أي حرب قد تقوم حتى لو لم تكن طرفاً فيها (مثلاً بين الولايات المتحدة وإيران). في الخليج الآن نهضة اقتصادية واستثمارية وتقنية وعمرانية واعدة, وعلى دوله أن تحافظ عليها بكل السبل, وأسّ المحافظة على وتائرها هو دوام الاستقرار وإبعاد شبح الحروب. وعلى دول الخليج أن تعي أن إيران الجارة تتبدل سياساتها وأيديولوجية الحكام فيها, وأن أي نظرة بعيدة المدى ينبغي أن تتجاوز تطرف الأدلجة والديماغوجية التي يتصف بها نظام الحكم الحالي. وعليه فإن مبادرة "هجومية" الآن مطلوبة من مجلس التعاون الخليجي تكون مرتكزة على أسس واضحة وعملية وبراغماتية صرفة, يكون من ضمنها: أولاً: ليس من مصلحة دول الخليج اندلاع أية حرب جديدة, وأنها ستعارض قيام مثل هذه الحرب, ولن توفر أراضيها لأية استخدامات عسكرية لأي طرف من الأطراف. ثانياً: القيام بحملة دبلوماسية وقائية دولية تركز على الدول والأطراف الكبرى, بريطانيا, فرنسا, الصين, روسيا, الاتحاد الأوروبي, هدفها التأليب ضد قيام أي حرب. ثالثاً: صياغة مسودة نظام أمن إقليمي يضم دول المجلس وإيران والعراق وربما مصر, وفتح حوار مستمر ومتواصل مع إيران حوله لتحويله إلى واقع ومظلة أمنية تكون بوصلتها مصالح دول المنطقة المشتركة بالدرجة الأولى. رابعاً: فتح حوار ومفاوضات متواصلة مع إيران حول الموضوعات الخلافية وخاصة احتلال الجزر الإماراتية الثلاث والتصميم على الوصول إلى حل لها عبر التحكيم والقانون الدولي, للانتهاء من هذه العقبة التي قد تقف في وجه التقدم نحو صياغة نظام أمن إقليمي. خامساً: إيجاد آلية إقليمية, خليجية, إيرانية, سورية, أردنية لتنسيق المواقف إزاء الوضع في العراق والمساعدة في تسريع الوصول إلى حل إقليمي يخلص العراق من الاحتلال الأميركي بأسرع وقت ويحفظ مصالح الأطراف العراقية, ويجنبها المزيد من الصراع الداخلي والاحتراب. سادساً: تعزيز التواصل الثقافي والإعلامي مع النخب والشرائح الإيرانية من أجل حشد رأي عام إيراني ضاغط باتجاه الوصول إلى ترتيبات إقليمية مع دول الخليج حتى لو تضمنت "تنازلات" من قبل النظام بشأن القضايا التي يعتبرها فوق المساومة. وفي هذا السياق علينا أن نتذكر أنه في مقابل الجهود الإيرانية للتأثير في الرأي العام العربي خاصة عن طريق الإعلام والبعثات الثقافية والمحطات التلفزيونية الناطقة بالعربية والإنجليزية, ليس هناك جهد عربي يذكر باللغة الفارسية للتواصل مع الجمهور الإيراني العريض. سابعاً: تعزيز التبادل الاقتصادي والاستثماري لبناء أرضية عريضة وعميقة من المصالح المشتركة تتحول مسألة المحافظة عليها إلى أولوية لدى الطرفين. ويمكن إضافة مرتكزات أخرى هنا وهناك والاستطراد في بنود إضافية ليس هذا مجالها, إذ إن مقصد هذه السطور هو التركيز على جوهر الفكرة الأساسية: إيجاد نظام أمن إقليمي يجمع دول الخليج وإيران, والدفع نحو تطوير قناعات متراكمة وعاجلة بضرورة المبادرة بطرح مثل هذه الرؤية. ولدول الخليج الحق, بل من واجبها, أن تكون بالغة الحرص على الجغرافيا الحيوية لها وإبعاد شبح الحرب عنها. وعليها ألا تقف موقف المتفرج وتترقب وقوع الأحداث الجسام, ثم تجد نفسها رغماً عنها طرفاً في مأزق لا علاقة لها به. ولعله من المفيد هنا التذكير بمثال مهم في السنوات القليلة الماضية وهو أن التاريخ السياسي الحديث للمنطقة سيسجل أن المبادرة العربية الجريئة الوحيدة التي كان بإمكانها قطع الطريق على حرب العراق والكارثة التي تبعتها كانت قد انطلقت من الخليج, وهي المبادرة الإماراتية التي أطلقها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، قبيل حرب العراق ودعا فيها صدام حسين للاستقالة, ونقل الحكم إلى حكومة انتقالية, ومغادرة العراق والإقامة في الإمارات معززاً مكرماً, بما كان سيبطل كل المفاعيل والمسوغات الأميركية التي سيقت لتبرير الحرب. في اللحظة الراهنة هناك مبادرة مطلوبة لقطع الطريق على حرب أخرى.