جديد "سياسة الحضارات" الفرنسية... وسجال الدين والعلمانية بداية تململ اليسار العلماني الفرنسي من كثرة حديث ساركوزي عن المسألة الدينية في خطاباته الأخيرة، وملامح سياسته العربية من واقع تحركاته وخطابه السياسي، واستحالة قيام عملية سلام في الشرق الأوسط دون إشراك دمشق، موضوعات ثلاثة نستعرضها ضمن جولة سريعة في الصحافة الفرنسية. "ساركوزي بين الدين والعلمانية": الإحالات الدينية الكثيرة في خطابات الرئيس نيكولا ساركوزي أثناء جولته هذا الأسبوع في دول الخليج العربي، وفي روما، وأثناء استقباله السنوي للسلك الدبلوماسي، لفتت انتباه الكثير من كُتاب الافتتاحيات والأعمدة في الصحف الفرنسية. في افتتاحية لـ"نور أكلير" تساءل جيل كلويرت إن كان من شأن هذا الاستدعاء المتواصل للمقاربات الدينية، والتأكيد على دور الدين في الفضاء الاجتماعي العام، أن ينال من مبدأ العلمانية الراسخ في المشهد السياسي الفرنسي، معتبراً أن بذور مثل هذا التحول غير المسبوق كانت حاضرة حتى في بعض تصرفات ساركوزي عندما كان وزير داخلية، من خلال مبادراته الإيجابية اتجاه ممثلي مختلف الجماعات الدينية، وربطه المتواصل بين ضرورة الحفاظ على العلمانية كمبدأ وعلى حرية الناس في الاعتقاد الديني كمبدأ مقابل. وها هو يبلور ذلك الآن في خلطة بدأ يسميها بـ"سياسة الحضارات" لا يفوت فرصة في الكشف عن بعض أبعادها. وفي عنوان عموده بمجلة لونوفل أوبسرفاتور تساءل جان مارسل بوجيرو: "العلمانية: ماذا يريد ساركوزي؟"، مشيراً إلى أن مقاربة سيد الأليزيه للمسألة الدينية لا تخلو من غموض ومفارقات ومزالق يصعب استشراف نهاياتها المحتملة. ولئن كان ساركوزي معروفاً بتأكيده، بمناسبة وبغير مناسبة، على أنه "كاثوليكي ملتزم يلجأ إلى الدعاء عندما يعاني" فهذا شأن شخصي خاص به، ولكن عندما يحضر الدين في مجال الخطابة والممارسة السياسية الفعلية فهذا أمر آخر مختلف، إذ من شأنه أن يخل بالتوازن التقليدي القائم بين العلمانية والدين في الاجتماع السياسي الفرنسي. وهكذا بسياسة اللمسات الصغيرة، والخطوة خطوة، يبدو ساركوزي من خلال ما يسميه بـ"سياسة الحضارات" على طريق تقويض أهم مبدأ حاكم للحياة السياسية الفرنسية. وينتهي بوجيرو إلى البحث عن المصدر الذي تأثر به ساركوزي في "التعدي" على العلمانية وهو الرئيس بوش، المعروف عنه حضور قوي للرؤى الدينية في خطابه السياسي. ويحذر الكاتب أخيراً من خطورة هذا "الزواج" الجديد بين الدين والسياسة في المشهد الفرنسي العام. "سياسة ساركوزي العربية": استعرض "جيل باري" في مقاله بصحيفة لوموند بعض التحولات والمحطات المهمة في رؤية ساركوزي للعلاقات الفرنسية- العربية، فبعد زيارته للقاهرة 30 ديسمبر الماضي، وللإمارات والسعودية وقطر خلال الفترة 13- 15 يناير الجاري، وبانتظار زيارته لفلسطين خلال الربيع المقبل، يمكن الآن تلمس ملامح عامة لهذه السياسة. ففي حين كان الرئيس الفرنسي يعبر بوضوح عن عدم إلمامه بشؤون العالم العربي قبل دخوله لقصر الأليزيه، ظل خلال حملته الانتخابية يركز على مسألة التعددية العالمية، ويدعو إلى العمل بمقتضاها. أما الآن فإن توجهات باريس يبدو أن لها عدة محددات منها مصلحتها الاقتصادية والسياسية من جانب، ومنها مغازلة توجهات الشارع العربي من جانب آخر. ولا يبدو أن ما تم تطويره تكفي لتسميته كلمة "سياسة" بل لعله "خطاب" فرنسي عن العالم العربي، مبني على مبدأ بذل كل ما هو ممكن لتلافي وقوع صدام حضارات. وعلى رغم كثرة حديث ساركوزي ودبلوماسيته عن الشرق الأوسط، وكثرة مبادراتهما إزاء هذه المنطقة وأزماتها المتزامنة في فلسطين ولبنان والعراق وإيران، فإن حدود اشتباك باريس مع المنطقة يبدو أنها حذرة، فهنالك حديث عن ضرورة التوقف عن إعطاء الدروس حول الديمقراطية، مع إبقاء على هامش محدود للحديث عن حقوق الإنسان في المنطقة. وباستثناء محاولة الانفتاح الفاشلة على سوريا، لا يبدو أن هنالك تحولات كبيرة طرأت على سياسة فرنسا العربية، كما كانت أيام الرئيس السابق جاك شيراك. وكل ما جد في الأمر هو استخدام مسميات جديدة كـ"سياسة الحضارات"، مع مواقف تصدر بالمناسبات كإعلان ساركوزي في القاهرة عن ضرورة "دعم الرئيس مبارك"، وتساؤله: "ماذا يريد هنالك، الإخوان المسلمون؟". وفي افتتاحية في صحيفة لوفيغارو بعنوان: "ساركوزي والإسلام" اعتبر بيير روسلين أن "سياسة الحضارات" الساركوزية، قد دخلت مرحلة التطبيق العملي الآن. ففي خطاب ساركوزي أمام مجلس الشورى السعودي وضع النقاط على الحروف من خلال تقديم رؤيته الكاملة للدور المعنوي الكبير الذي تلعبه القيم الدينية في استقرار وتقدم العالم. وقد جاء في ذلك الخطاب قوله: "إن سياسة الحضارات هي المواجهة التي يخوضها، داخل الإسلام كما في بقية الأديان، أولئك الذين يحاربون ضد التعصب، والإرهاب، وأولئك الذين يستندون على القيم الأساسية للإسلام لهزيمة التطرف، الذي هو منافٍ لتلك القيم". وبهذا الطرح حاول ساركوزي إبراز وحدة المعركة العالمية ضد التطرف والإرهاب، وحتمية العمل على تنافي "صدام الحضارات"، وهذه خطوة كبيرة تذهب بالحوار بين الغرب والإسلام أبعد من عمومية وبلاغية كلمة "صدام الجهالات" التي استخدمها الرئيس السابق جاك شيراك في خطاب في نفس المكان في مارس 2006. "السلام يمر من دمشق": تحت هذا العنوان كتب مارك هالتر مقالاً في صحيفة ليبراسيون، ذهب فيه إلى أن بناء عملية سلام مستدامة وحقيقية في منطقة الشرق الأوسط يستحيل بدون سوريا، وذلك بالنظر إلى عدد من الاعتبارات السياسية والاستراتيجية التي يتعذر إيجاد بدائل عنها. ويتوقع "هالتر" أن يثير مثل هذا الكلام حفيظة كثيرين في الغرب، على اعتبار أن سوريا تقع على مكان ما، ضمن أو قرب، لائحة "محور الشر" الأميركية الشهيرة، كما أنها حليف لإيران، ولبعض المنظمات المُصنفة في العواصم الغربية على أنها "إرهابية". ولكن، حتى لو صحت هذه التصنيفات "الأخلاقية"، فإن أحد أكثر مبادئ السياسة الخارجية بداهة هو أننا نصنع السلام عادة مع خصومنا، وليس مع نسخ حرفية عنا، تتفق معنا في كل المواقف والرؤى. ثم إن سوريا التي تقع على تماس مباشر مع إسرائيل لمسافة طويلة، وتحد تركيا ولبنان والأردن والعراق، يتعذر حل كل أزمات المنطقة المتداخلة دون وضعها في الاعتبار. وهي -يقول الكاتب- ناضجة الآن تماماً لإيجاد تسوية. ودليل ذلك حضور ممثل رفيع عنها لمؤتمر أنابوليس، إضافة إلى كون التكوين الداخلي للمجتمع السوري وللنظام السياسي لا يحولان دون ذلك. كما أن من مصلحة دمشق فك تحالفها مع طهران، وذلك لأن قرابة الثمانين في المئة من سكان سوريا هم من المسلمين السُّنة، والنظام السياسي في دمشق علماني. بل إن مفتي سوريا نفسه أحمد بدر الدين الحسون يقال إنه علماني هو الآخر. وقد دعاني -يقول الكاتب- وأنا اليهودي البولندي والكاتب الفرنسي، لكي أخاطب المصلين في صلاة الجمعة في واحد من أعرق المساجد في تاريخ الإسلام وهو المسجد الأموي، وذلك باعتباري حاخاماً. وينتهي الكاتب إلى القول إن احتواء سوريا وعدم عزلها عن أية تسوية سيجعلها تفك ارتباطها بالعديد من المنظمات المتشددة التي تجد مواقع قدم لها في دمشق كحركة "حماس". هذا إضافة إلى أن الأنظمة القوية -كنظام دمشق- هي وحدها التي تستطيع فرض السلام والتسوية مع إسرائيل، دون خوف من احتجاجات الشارع. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إعداد: حسن ولد المختار