كثيراً ما نسمع عن دعوة المؤسسة السياسية الأميركية للدول الأخرى، وخاصة النامية والمستضعفة منها، إلى التقيد بنزاهة وحرية العملية الانتخابية، بما في هذه المؤسسة، شتى الإدارات الموالية للحزب "الجمهوري" الحاكم. لكن وكما تكشّف التناقض الحاد والصارخ -يقول البعض- بين القيم والمبادئ الديمقراطية من جهة، وتطبيقاتها العملية من جهة أخرى في عدة مجالات، ليس أقلها ولا آخرها ما حدث من انتهاكات لهذه القيم في كل من العراق وأفغانستان ودول أميركا اللاتينية من قبل، نقف هنا اليوم أيضاً على مثال آخر لانتهاك هذه المبادئ داخل قلعة الديمقراطية الأميركية نفسها، ممثلة في عمليات التزوير الانتخابي التي يمارسها ناشطو الحزب "الجمهوري"، ومهندسو حملاته الانتخابية. كيف تزوّر الانتخابات الأميركية؟ هذا هو السؤال الذي يجيب عليه ألن رايموند مؤلف هذا الكتاب: "كيف تزوّر الانتخابات: اعترافات ناشط انتخابي جمهوري"، الذي أمضى عقوبة سجنه بأحد السجون الفيدرالية الأميركية، بجريمة الفساد الانتخابي التي ارتكبها باسم اللجنة الانتخابية للحزب "الجمهوري" بولاية نيوجيرسي في انتخابات عام 2000. وأهم ما في هذا الكتاب كونه مجموعة من الاعترافات الصريحة بممارسات المؤلف نفسه، عمليات تزوير الانتخابات والتأثير على نتائجها، لصالح الحزب "الجمهوري" على حساب خصومه "الديمقراطيين". فإثر إكماله لدراساته العليا في تخصص "الإدارة السياسية" بكلية باروك وهو البرنامج الذي ألحق فيما بعد بجامعة جورج واشنطن، كان أول ما فكر فيه رايموند، الالتحاق باللجان الانتخابية للحزب "الجمهوري" والعمل فيها. وقد تزامن التحاق المؤلف بالعمل الانتخابي هذا، مع الأيام الأولى لما يسمى تاريخياً في السياسة الأميركية المعاصرة بالثورة "الجمهورية"، التي تشير إلى الفوز الانتخابي الكبير الذي حققه الحزب "الجمهوري" في انتخابات عام 1994 النصفية، بحصوله على 54 مقعداً من مقاعد مجلس النواب، وخمسة مقاعد في مجلس الشيوخ، وتمكنه من إحكام قبضته على الكونجرس منذ شهر يناير عام 1995، وحتى أكتوبر 2006، حيث استعاد "الديمقراطيون" سيطرتهم مجدداً على الكونجرس، عقب انتخابات نوفمبر 2006 الأخيرة. والذي دعا "الجمهوريين" لإطلاق صفة "الثورة" على ذلك الإنجاز الانتخابي، كونه الأول من نوعه الذي يستعيد عبره الحزب سيطرته على الكونجرس، بعد أربعين عاماً. فمنذ بدايات تلك "الثورة" التي توجت بفوز الرئيس بوش الأب، ثم بوش الابن في عام 2000، ظل ألن رايموند يؤدي دوراً رئيسياً في هندسة وتنسيق الحملات الانتخابية للحزب "الجمهوري"، وفي مساعدة مرشحي الحزب على ليِّ عنق الحقيقة وتزويرها، وفي التلاعب على القانون بعيداً عن أعين الرقابة والعدالة، خلال عقد كامل اتسم بحدة التنافس الانتخابي بين "الجمهوريين" وخصومهم "الديمقراطيين". وقد بدأ رايموند لعبته هذه في انتخابات ولاية نيوجيرسي. وكان طبيعياً أن يخوض المؤلف تجربته هنالك بصفته تلك، وَحَل التزوير وقذارته الممتدة من حملات الانتخابات الولائية المحلية الخاصة بأعضاء الكونجرس، وصولاً إلى أرفع المواقع الإدارية القيادية في تنظيم الحملة الانتخابية الرئاسية للحزب "الجمهوري"، ممثلة في "اللجنة القومية للحزب الجمهوري" ذات الصلة المباشرة بالبيت الأبيض حينئذ. وبقدر ما حقق المؤلف مِن جاه وثراء وسمعة، طالما تطلع إليها، بقدر ما دفع ثمن هذا الانزلاق السياسي الأخلاقي باهظاً، بإمضائه مدة من السجن بأحد السجون الفيدرالية عقاباً له. وهذه هي بالطبع ميزة النظام أو القيم الديمقراطية التي وجّه إليها المؤلف وحزبه طعنة نجلاء، كما يقال، لولا رسوخها وتجذرها في تربة الممارسة السياسية الأميركية. على أن الذي يحسب إيجاباً للمؤلف، اعترافه وصراحته في سرد ما كان يفعله على وجه التحديد من "تكتيكات" و"ألاعيب" انتخابية أثبتت فعاليتها في التأثير على نتائج الحملات الانتخابية، وإمالة كفة الميزان لصالح مرشحي الحزب "الجمهوري". وخلافاً لغيره من كثير ممن تطلق عليهم صفة "مهندسي" الحملات الانتخابية، فقد تحمّل رايموند مسؤوليته كاملة إزاء ما فعل، ما إن أصبح الأمر أمام القضاء. وكان طريق رايموند إلى السجن قد بدأ بتلقيه اتصالاً هاتفياً مفاجئاً، من أحد ضباط شرطة مركز "روك" بمانشستر، كان مكلفاً بإجراء تحقيق حول مكالمات هاتفية كاذبة استهدفت الناخبين "الديمقراطيين" في أنحاء مختلفة من البلاد، أثناء الحملة الانتخابية لأعضاء الكونجرس في عام 2000. كما شمل التحقيق كذلك، نجاح عدة أفراد وجهات مجهولة، في التشويش على خطوط الهاتف التابعة لمقر اللجنة الانتخابية للحزب "الديمقراطي" خلال الحملة نفسها، مما قعد بها عن متابعة مهام الاتصال بالناخبين المؤيدين للحزب، وتعبئتهم وحثهم على الوصول إلى مراكز الاقتراع والإدلاء بأصواتهم لصالح المرشحين "الديمقراطيين". بل إن تلك الحيل التي قصد بها تحقيق عكس ما أراده الحزب "الديمقراطي" تماماً، شملت استئجار عدد من الممثلين وتكليفهم بمخاطبة الناخبين "الديمقراطيين" هاتفياً، مستخدمين في تلك المكالمات نبرات مهاجرين أفارقة وآخرين من دول أميركا اللاتينية، على أمل إثارة النعرات العنصرية في أوساط العائلات "الديمقراطية" البيضاء، أو إخافة مؤيدي الحزب "الديمقراطي" من خطر سرقة العمالة المهاجرة غير الشرعية، لوظائفهم ولقمة أطفالهم وعائلاتهم بتلك اللهجات والنبرات الغريبة عليهم. وعلى الرغم من أن ضابط الشرطة الذي تحدث معه حول الأمر، أخبره بأنه ما من إجراء قانوني محدد سيتخذ ضده في الوقت الحالي، إلا أن إحدى الصحف نشرت فيما بعد في أحد أعدادها لعام 2006، عنواناً رئيسياً في صفحتها الأولى، عن "تكتيكات التزوير الانتخابي في الحزب الجمهوري" وحملت إشارات لأسماء عدد من الشخصيات باللجنة الانتخابية للحزب، بما فيها اسم المؤلف. وحين ندرك أن رايموند ظل يعمل جنباً إلى جنب مع كارل روف في هندسة حملات الحزب "الجمهوري" لمدة تزيد على 15 عاماً، فإن من الطبيعي أن نستنتج أن "النجاح" المنسوب إليه في أوساط ودوائر الحزب "الجمهوري"، ليس مصدره مجرد ألاعيب التشويش الهاتفي على الخصوم "الديمقراطيين" فحسب. وتلك هي التفاصيل التي أسهب المؤلف في شرحها وسردها عبر هذا الكتاب المهم، الذي يبين كيف تفعل استراتيجية دق الإسفين بين الحزب الخصم وناخبيه، فعل السحر في قلب مواقف وأصوات الناخبين على حزبهم! والسؤال المهم هو: هل توقفت هذه الممارسات بمحاكمة المؤلف ومعاقبته بالسجن؟ ------------ عبد الجبار عبد الله الكتاب: كيف تزوّر الانتخابات: اعترافات ناشط انتخابي جمهوري المؤلف: ألن رايموند الناشر: مجموعة "سايمون آند شوستر" للطباعة والنشر تاريخ النشر: يناير 2008