لقد حظيت الانتخابات التمهيدية الأميركية لاختيار المرشحين الرئاسيين لخوض المعركة الفاصلة في الرابع من نوفمبر من العام الجاري بالكثير من الاهتمام العالمي. وخلالها ساهم المتنافسون في عشرات الحوارات المتلفزة، إلى جانب إجرائهم لمئات المقابلات والحوارات الصحفية مع شتى وسائل الإعلام. لكن وعلى رغم ذلك، فإننا نلحظ تحفظاً واضحاً في سلوكهم، ما إن تثار في وجوههم أسئلة محددة، عما سيفعلونه إزاء قضايا بعينها من قضايا السياسة الخارجية، لاسيما العراق وإيران والنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، في حال فوزهم بالمنصب الرئاسي في شهر يناير المقبل. ويعود أحد أسباب هذا التحفظ من قبل المتسابقين الرئاسيين، إلى استمرار الحرب العراقية وطول أمدها. فعلى رغم ما يشيعه "الجمهوريون" من نجاح ينسبونه لاستراتيجية زيادة عدد القوات، التي بدأ بتطبيقها الجنرال "بترايوس" منذ العام الماضي، فإنهم يدركون جيداً عدم شعبية هذه الحرب في أوساط عامة الجمهور الأميركي. ولذلك فإن الصمت عنها بقدر المستطاع، هو السبيل الأفضل لتفادي الحرج الذي تثيره. أما المعضلة التي يواجهها "الديمقراطيون"، فتتمثل في عدم استعدادهم حتى الآن، لقبول فكرة تحسن الوضع العسكري في العراق، نتيجة للمغامرة الخطيرة التي أقدم عليها الرئيس بوش، بدعمه لاستراتيجية زيادة عدد القوات، وأن هذه الاستراتيجية قد أتت أكلها بالفعل. وبدلاً من الاعتراف بما أنجزه بوش في هذا المجال، فها أنت تراهم يفسرون تزايد عزم العراقيين على مواجهة عناصر تنظيم "القاعدة" والمتطرفين الطائفيين من بني جلدتهم ووطنهم، بشعورهم باقتراب فوز أحد المرشحين الرئاسيين "الديمقراطيين" بالرئاسة الأميركية في شهر نوفمبر المقبل، مما يعني بالنسبة لهم اقتراب موعد الانسحاب العسكري الأميركي من بلادهم. كما يتوحد "الديمقراطيون" في نظرتهم القائلة إن الحرب الجارية في العراق، تصرف الأنظار والاهتمام عن الجهود الحربية والأمنية والسياسية المبذولة في أفغانستان، إلى جانب تشتيتها للأنظار عن خطورة الأزمة الباكستانية. وبين الذي يثيره "الديمقراطيون" من حجج، قولهم إنه وفيما لو تم نشر قوة عسكرية أميركية أكبر في أفغانستان منذ مدة كافية، لكانت قد تمكنت من اعتقال أسامة بن لادن أو قتله على أقل تقدير. أما فيما يتصل بالسياسات الخارجية إزاء إيران، فالسائد بين جميع المرشحين الرئيسيين، هو اتفاقهم على أن تسلح إيران نووياً، يمثل خطراً أمنياً لا يمكن قبوله، سواء بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، أم لدول الجوار الشرق أوسطية. ويحث جميعهم على تكثيف جهود الحل الدبلوماسي للأزمة الإيرانية، ولكن دون أن يستبعد أي منهم، خيار اللجوء إلى القوة كخيار أخير لدرء الخطر الإيراني، فيما لو استدعت الضرورة. وبالمثل تراهم جميعاً يستهجنون نبرة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد المعادية لكل من أميركا وإسرائيل. لكن الملاحظ أنه ما من أحد منهم كلف نفسه مشقة الحديث الانتخابي التفصيلي، عن العروض والحوافز التي يمكن تقديمها لإيران، مكافأة لها على تفكيك برامجها النووية، في حالة تولي أحدهم للمنصب الرئاسي، كما لم يشر أي منهم إلى مدى الفائدة التي يمكن جنيها من كسب التأييد الروسي، إلى صف السياسات الخارجية الأميركية إزاء طهران. أما فيما يتصل بالسياسات الخارجية المعنية بحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فليس سوى الصمت المطبق عن القضايا المرتبطة بهذا الأمر من قبل المرشحين. فقد أجمع هؤلاء خلال اللقاءات الصحفية التي أجريت معهم، على دعمهم الثابت لإسرائيل، في مقابل إحجامهم جميعاً عن بلوغ المدى الذي وصل إليه جورج بوش، بإعلانه الصريح عن رؤية لحل دائم وسلمي للنزاع، تقوم على الإعلان عن دولتين متجاورتين مستقلتين عن بعضهما البعض في إسرائيل وفلسطين، إلى جانب مطالبته لإسرائيل بإخلاء الأراضي التي احتلتها بعد عام 1967. أما القضية الشرق أوسطية الوحيدة، التي يبدو أن جميع المرشحين الرئاسيين على وفاق فيها، فهي حاجة الولايات المتحدة الأميركية إلى تبني سياسات طاقة أفضل من المعمول بها في الوقت الحالي، شريطة أن يكون قوامها، خفض اعتماد أميركا على واردات الطاقة الأحفورية. غير أن الذي اختلفت وتباينت فيه آراء المرشحين، هو البدائل والخيارات الممكنة لموارد النفط الأجنبي، خاصة أن هذه الموارد النفطية، لا تزال قادرة على ضخ الكميات الكافية من الطاقة التي يحتاجها الاقتصاد الأميركي. والملاحظ هنا في هذه القضايا، ميل "الديمقراطيين" إلى تبني بلادهم لسياسات أكثر كفاءة في استهلاك الطاقة واستخداماتها المختلفة، مصحوبة بتبني سياسات أكثر محافظة على الاستدامة البيئية. أما من ناحيتهم فيميل "الجمهوريون" إلى تطوير بدائل عملية محلية للموارد النفطية الأجنبية، بما فيها تطوير تكنولوجيا طاقة "أكثر نظافة" لخيار الفحم الحجري المتوفر في البلاد، إلى جانب تكثيف جهود البحث والتطوير في برامج الطاقة البديلة القائمة على غاز الهيدروجين. وكما نعلم فكلما مضت المعركة الانتخابية الأولية شوطاً أبعد، وبالتالي تقلص عدد المرشحين المتنافسين، كلما أصبح الحوار الانتخابي حول مختلف القضايا المثارة، أكثر تحديداً ودقة وتبياناً لمواقف المرشحين الرئاسيين من تلك القضايا. وهنا نخص بالذات، أهمية تحديد مواقف المرشحين من سياسات الطاقة، لاسيما إن كان المرشح على قدر كبير من الحماس للتغيير والابتكار في سياساتنا الخارجية، على نحو ما يبشر به المرشح "الديمقراطي" السيناتور "باراك أوباما"، أو بعض المرشحين "الجمهوريين" من أمثال حكام الولايات السابقين: "مايك هوكابي" و"مت رومني". ومهما يكن، فإن القضية الانتخابية الوحيدة، التي من شأنها إحداث تغيير جوهري في طبيعة ونبرة حملة السباق الرئاسي الجارية حالياً، وكذلك في الحوار الدائر الآن بشأن السياسات الخارجية المستقبلية، هي ما إذا كانت ستقع هجمات إرهابية جديدة على الأميركيين، قبيل المعركة الانتخابية الفاصلة في شهر نوفمبر المقبل أم لا؟ وفيما لو حدثت هجمات كهذه داخل التراب الأميركي، فإنها لاشك ستكون حافزاً كبيراً للمرشحين "الجمهوريين" من أمثال السناتور "جون ماكين"، و"رودلف جولياني"، العمدة السابق لمدينة نيويورك. أما في حال وقوعها خارج حدودنا، سواء في العراق أم أفغانستان على سبيل المثال، فإنها ستعزز مواقف "الديمقراطيين" القائلة بفشل سياسات بوش القائمة على خوض حربين متزامنتين، وبعدد غير كاف من القوات في ذات الوقت.