في القرن الثامن قبل الميلاد كانت أثينا تنمو بجانب إسبرطة، فامتدت عبر البحار إلى مستعمرات في صقلية وإيطاليا، ونمت فيها الثقافة والفن بجانب التجارة. أما إسبرطة فلم تتغير ونما شعبها على الحرب والقتال؛ فكان الطفل يؤخذ من أمه وعمره سبع سنوات، فينام على القصب ولا يغير ثوبه في السنة سوى مرة واحدة، أما الأطفال الضعاف فيرمون في كهوف في الجبال ليموتوا في أفواه الضباع، ولم يشتغلوا بالأرض واحتقروا المال، وكانت نساؤهم تقاتل مثل الرجال. وفي ممر "ترمبولاي" أوقف ثلاثمائة منهم جيشا فارسياً، من مئة ألف أو يزيدون، مدة ثلاثة أيام حتى مات الثلاثمائة! وفي عام 431 ق. م وقعت الواقعة بين أثينا وإسبرطة فاندلعت الحرب البولونيزية، واستمرت سبعة وعشرين عاماً، انتصرت فيها إسبرطة ومدت يدها على رقعة واسعة من الأرض، ولكنها مع تمددها دُمرت في ثلاثين سنة، فلم تقم لها قائمة وأصبحت سلفاً ومثلاً للآخرين. إن موت الحضارات وانهيار القوى العظمى ينص عليه القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي صيغ لأول مرة عام 1829 على يد الفرنسي "سادي دي كارنو" Sadi de Carnot الذي يقول: "إن كل نظام معزول كلياً عن أي نظام آخر يميل إلى أن يصبح في حالته الأكثر احتمالاً وهذه الحالة هي الفوضى الكاملة". وتطبيق هذا القانون يعني كما يقول "ليونارد راسترينغ" في كتابه "مملكة الفوضى" أن: "كل الأنظمة المغلقة غير منتظمة، وتتحلل وتموت تدريجياً. وهي تدعى في العمل الهندسي بالتآكل، وفي البيولوجيا الشيخوخة، وفي الكيمياء التحلل، وفي علم الاجتماع الفساد، وهي في التاريخ الانحطاط". وحسب رؤية المؤرخ البريطاني الشهير "أرنولد توينبي" لنهاية الحضارات؛ فبقدر اختلاف انطلاقها بقدر توحد مصير إخفاقها. وهو يرى أن ذلك يحدث ليس بسبب نقص السيطرة على البيئة، طبيعية كانت أم بشرية، أو لانحطاط في الأساليب الصناعية أو التكنولوجية. كما لا يرد الانهيار إلى عدوان مهلك يشنه خصوم دخلاء. كذلك فهو ليس من فعل التشيُّخ الكوني، وليس إعادة عابثة لقوانين الطبيعة الجامدة. وبكلمة مختصرة، فإن الإمبراطوريات لا تموت على يد قاتل خارجي بل بعلة الانتحار الداخلي. والدين له طريقته في الدخول إلى الحدث التاريخي؛ فيقطع منه امتداداته في الزمان والمكان والأشخاص ويدخله إلى معمل المطلق، وبهذا يتعالى فيصبح قانوناً اجتماعياً. ولذا فهو لم يتحدث قط عن السُّنة أو القانون بالمعنى الفيزيائي من تمدد المعادن بالحرارة، أو الكيمياوي عن الحلقة البنزينية التي كشفها "أوجست كيكول" في المنام بلحظة تدفق عبقري، بل كان يرمي إلى السُّنة الاجتماعية النفسية. وبقدر تأكيد الإسلام على مفهوم السُّنة أو القانون التاريخي، بقدر غرق المسلمين إلى قراريط آذانهم في الخرافة والأسطورة. واليوم تأتي القوى العظمى بقضها وقضيضها وتجلب على العرب بخيل ورِكاب، ولكن قانون التاريخ كما يقول "توينبي" أنه يحقق أشياء غير التي رسمها الجبارون. وعندما جهز بايزيد الثاني نصف مليون جندي لاجتياح أوروبا فوجئ بتيمورلنك في معركة أنقرة عام 1402، فنجى الجنين الأوروبي من الاختناق العثماني، مما يظهر المغزى الميتافيزيقي للتاريخ. وتبقى الحرب نزعة انتحارية تقضي على من يمارسها كما جاء في الإنجيل؛ أن من أخذ السيف بالسيف يهلك. وطوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض. وفي يوم سادت البسيطة الديناصورات ولكنها اختفت كلية قبل 65 مليون نسمة، ولم يدل عليها سوى هياكلها الهائلة بأدمغة قاصرة. وهو قدَر القوى العظمى التي تنتفخ مثل الأورام الخبيثة ثم تَهلَك وتُهلِك. سنة الله في خلقه. وهذا المرض الذي انطبق على الإمبراطورية السوفييتية فهوت صريعة إلى الجنب، وهي تمتلك قدرة تدمير الكون عشر مرات، وبدون هجوم خارجي، هو تماماً ما سينطبق على الإمبراطوريات الجديدة التي لا تغيب الشمس عن قواعدها. إن مقتل القوى العظمى كما يقول بول كيندي يأتي من حيث لم تحتسب، فهي تهلك بقانون فرط التمدد كلما تمددت وانتفخت كما هلكت وبادت حضارات كثيرة في التاريخ. وحسب روبرت غرين في كتابه عن الإمساك بالقوة؛ فالتاريخ يحوي سجلاً حافلاً، من جثث لا حصر لها في مقابر الحضارات، كما هو الحال في مقبرة أي قرية تضم العظام وهي رميم؟