يتابع المراقبون للشأن الأفريقي، باهتمام شديد، ما يحدث في كينيا خلال يناير 2008 مثلما تابعوا بنفس القلق ما حدث في جنوب أفريقيا قبل شهر واحد. ورغم الطابع المختلف للحدثين، لكنهما يتعلقان معاً بالأوضاع "المتفجرة" في دولتين تحسبان من نماذج الديمقراطيات الكبرى في القارة. في جنوب أفريقيا: انبثقت عقب اتفاق تصفية "النظام العنصري" في أول التسعينيات "حالة ديمقراطية" احتل فيها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي صدارة المسرح، مؤمناً أحوال البيض، ورأس المال الأوروبي، بل والمصالح الغربية الكبرى، مقابل الأغلبية الكاسحة لحزب المؤتمر وحلفائه من الشيوعيين والمؤتمر العمالي، والآسيويين، ومنظمات المرأة والمجتمع المدني. وكل ذلك بزعامة كاريزمية تاريخية لنيلسون مانديلا، ومن ثم بدا المشهد الديمقراطي كاسحاً. ورغم "القوى الشعبية الكاسحة" أيضاً والتي سلمت بهذه الصيغة في بادئ الأمر، فإنها حاصرت حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" القائد بوعوده طوال فترة النضال ضد "الأبارتهيد"، بل وتكاد تلك القوى أن تكون ضمنت حقوقها التاريخية بالحلف الثلاثي المشارك في الحكم (المؤتمر - الشيوعيون - اتحاد العمال) في صيغة تعتبر فريدة على مستوى القارة. بل -وفي تقديري- على مستوى النظم الاجتماعية السياسية عموماً. لكن الرئيس "تابو مبيكي"، الذي ورث مكان -ليس مكانة- نيلسون مانديلا، لم يمض بهذه الصيغة القائمة ممثلة لكل الأطراف الاجتماعية إلى مبتغاها الحقيقي فيما سمي بـ"اقتسام الثروة" أو "تعميق اقتسام السلطة". فحكومة "مبيكي" ذهبت خلال عقد أو أكثر -حيث كان نائب مانديلا المتنفذ منذ 1994- إلى آفاق بعيدة عن هذا المبتغى الاجتماعي، بما أعطته من نفوذ للبيض والملونين، وامتدت بالثورة البيضاء إلى آفاق عالمية واستثمارات واسعة في أنحاء أفريقيا، ومع الخليجيين والدول الآسيوية، وحتى أميركا اللاتينية، وبدت في الأفق هذه الإمبراطورية الرأسمالية، مارداً جديداً بين نمور بلدان الجنوب، ولم تعد القوى السوداء التي أسقطت النظام العنصري ضمن "ورثة النظام" ولكنها بقيت بعيدة وتزداد عزلة اللهم من ظهور بعض ممثليها فيمن سموا "الرأسمالية السوداء" في حالة تبعية أصلاً لآليات النمو الرأسمالي البيضاء، وليس لنقل بعض المصالح الاجتماعية للسود. وارتفع معدل البطالة لأكثر من 30%، ووصل خط الفقر إلى 40% من السكان الأفريقيين، وظل 80% منهم خارج فرص التعليم، كما بقي الفارق مضاعفاً في متوسط دخل الفرد الذي يصل إلى 13 ألف دولار للبيض، ولا يزيد على ألفي دولار للسود في أحسن التقديرات الشكلية المعروفة. من هنا افتقدت "الديمقراطية" التي كانت ذات معنى اجتماعي رئيسي يوم سقوط النظام العنصري، كل عناصرها، وعبر هذا الموقف عن نفسه في شيوع العنف والجريمة، كما عكسته وثائق حلفاء النظام في الحزب الشيوعي، والأخطر منه اتحاد العمال، وخاصة عمال المناجم. ويذكر هنا أن الاضرابات الشاملة التي قادها هذا الاتحاد عام 1988 هي التي أدت إلى مراجعة العنصريين لموقفهم وتفضيل التسليم ببعض الصور الديمقراطية السياسية مع الاحتفاظ بالسلطة الاقتصادية، ومن هنا حدث انقلاب 1990. وها هو نفس اتحاد العمال ينظم في البلاد أكثر من خمسة عشر إضراباً شاملاً في السنوات الأخيرة كان أخطرها في يونيو/ أغسطس 2007، مهدداً سلطة حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" وتحالفاته على نطاق واسع. لذا تحركت كوادر الحزب وقياداته لإنذار قيادة الحزب التي ستطرح مع برلمانه في انتخابات عامة عام 2009، ووقتها ستكون الأزمة الكبرى في هذه الإمبراطورية التي ينفرد فيها حزب المؤتمر بحوالي 65% من مقاعد البرلمان، ولا يوجد منافس فعلي قوي أمامه مما يعرض البلاد للفوضى، وما حدث في مؤتمر الحزب في 18 ديسمبر 2007 هو محاولة حزب "المؤتمر" لإنقاذ نفسه باختيار قيادة جديدة ذات طابع شعبوي ممثلاً في "جاكوب زوما"، بل إن مجموعته اكتسحت كل المقاعد التنفيذية في المؤتمر مما لا يجعل مناورات إبعاده شخصياً عن طريق قضايا الفساد، ذات دلالة كبيرة. ولذا يرشح الكثيرون "جنوب أفريقيا" في عام 2009 لنفس الفوضى التي تتعرض لها كينيا الآن بسبب مأزق الديمقراطية السياسية مع إلحاح الحاجات الاجتماعية. الموقف في كينيا: يعبر عن الدرس الذي أشرت إليه سابقاً بشكل آخر في أقل من شهر، فقد كانت كينيا أسبق من جنوب أفريقيا في صفقة "الديمقراطية السياسية" من دون مقابل اجتماعي، بل واستمرت كذلك حتى رغم التنافس القوي بين الحزبين المتصارعين على الحكم طوال العقد الأخير. فمنذ استقلال كينيا عام 1963، ضمنَ "جومو كينياتا" -مثل مانديلا من بعد- الأمان للرأسمالية والمصالح الغربية في البلاد، وعاشت نموذجاً لـ"النمو الرأسمالي" في بلد متخلف، مثل ساحل العاج ونيجيريا... إلخ، وعوضتها السياحة مصادر بديلة للتعدين أو المحاصيل الزراعية الرأسمالية، بل وكانت مجالاً لمواجهة أنماط أخرى مشاغبة مثل تنزانيا أو أوغندا أو السودان لبعض الوقت! ورغم شعبوية المعارضة التي كان في مقدمتها التحالف الموالي لـ"راولا أودينجا" وهو من "اللو" أيضاً، لكن "كيباكي" أو معارضيه السياسيين لم يقدموا برنامجاً اجتماعياً شاملاً لقوى شعبية حقيقية. وبينما حوصر "كيباكي" بجماعات الفساد الاقتصادي والاجتماعي، وبإجراءات الأمن الأميركية المفرطة بعد تفجير السفارات الأميركية في شرق أفريقيا، مع مخاوف الأميركيين الدائمة من علاقة الفقر المفرط بالإرهاب، كانت "الحالة الأوكرانية الديمقراطية" تنتقل بسرعة إلى الساحة الكينية، وعبرت عنها مباشرة حركة "الحركة البرتقالية" الشبيهة بما قام في زيمبابوي أيضاً ضد الرئيس "موجابي". لم يبد الرئيس "كيباكي" أي تمسك بوعوده الديمقراطية منذ وصل إلى سدة الحكم عام 2002، فقد استمر في إبعاد حلفائه من حزبه هو نفسه، وهم الذين حشدوا له الجماهير في معركة حاسمة أطاحت بسلفه "أراب موي"، وحين شعر بقوة وجودهم البرلماني أيضاً ومحاولة خلق منصب رئيس وزراء قوي بجانبه في حكم البلاد رفض بقوة وعرض الأمر على استفتاء جاءت نتيجته ضده تماماً عام 2005، وعندها فصل معظم وزرائه، وراح يعمل على تفتيت المعارضة التي كانت تحتشد تدريجياً بسبب إجراءات "كيباكي" لصالح زعامة "أودينجا". وقد اعتمد "كيباكي" لبعض الوقت على التحسن في معدل "النمو الاقتصادي" بكينيا، ولكنها هنا مثل حالة جنوب أفريقيا لا تعني تحسناً في الحياة الاجتماعية لأغلبية سكان البلاد، إذ تعني فقط نمو حجم "الرأسمالية المتوحشة"، التي تحكم مصير البلاد، عبر الرواج السياحي، والاستثمارات العابرة فقط بل وشديدة التعاون مع رأسمالية جنوب أفريقيا. وتتصاعد الأزمة الآن لشعور "أودينجا" أن "جماهير الفقراء" معه أملاً في تغيير لصالحها، ولذا اختارت أنصاره بأغلبية في البرلمان الجديد تتيح له استمرار معارضته بقوة لاقتراحات الصلح وتقاسم السلطة مع "كيباكي". ورغم أن "أودينجا" لا يطرح جديداً من الناحية الاجتماعية وحتى السياسية لأنه لا يتميز بصفات خاصة في هذا الاتجاه منذ قاد "الحركة البرتقالية" عام 2002، إلا أنه يخشى أيضاً عدم قدرته مرة ثانية على حشد مثل هذا التأييد للحصول على "كل السلطة" مثلما تتاح له اليوم. ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نتوقع منه موقفاً متشدداً أمام ضغط الأميركيين من جهة، وزعماء الاتحاد الأفريقي المعتدلين والوسطاء لديه من جهة أخرى. والأخطر من ذلك أن حلفاء "العملية الديمقراطية" السياسية هذه، ليسوا بالتصميم الكافي على شدة المعارضة إزاء مناورات "كيباكي" الذكية وقدرته على جذبهم خارج معسكر "أدوينجا" على نحو ما بدا في قبول أحد حلفائه السابقين منصب نائب الرئيس بعد الانتخابات الأخيرة. وقد يكون اجتماع البرلمان اليوم 15 يناير حاسماً حيث تملك المعارضة الأغلبية فيه، ما لم تنجح هنا أيضاً تعديلات "كيباكي" على البرلمانيين أنفسهم للانسلاخ عن دعم "أودينجا". إذن، فخلال وقت قصير انكشفت النماذج الديمقراطية الأفريقية الكبرى أمام المطالب الاجتماعية، لكن أزماتها في أجواء العولمة السائدة وموقفها تجاه الدول الصغرى لا تبشر بحل أزمة هذه الديمقراطيات الليبرالية أمام الهدف الأسمى للديمقراطية الاجتماعية.