قدِم الرئيس التركي "عبدالله غول" إلى الولايات المتحدة ورحل من دون أن تلفت الزيارة الكثير من الاهتمام الإعلامي، وهو في الواقع أمر ليس بالغريب بالنسبة لرئيس دولة صديق يزور واشنطن. غير أن زيارة "غول" إلى البيت الأبيض من أجل تناول الغداء مع الرئيس بوش -وعدم إثارته لأية عناوين في الصحف- تسجل تحولاً في واحدة من أهم العلاقات الخارجية للولايات المتحدة وتمثل نجاحاً هادئاً لإدارة في عامها الأخير، في إصلاح ما أفسدته التجاذبات السابقة. اليوم، يعي الأميركيون بمرارة فقدان بلدهم لبعض مكانته عبر العالم خلال السنوات الأخيرة. غير أن نشاطاً دبلوماسياً مكثفاً يسجَّل حالياً في وقت تسير فيه ولاية هذه الإدارة نحو نهايتها، ولعل سيولة العلاقة مع تركيا جزء من هذا الحراك. فقد تحول هذا البلد المسلم ذو الواحد والسبعين مليون نسمة والعضو في حلف "الناتو"، والذي يحد كلاً من الاتحاد الأوروبي والعراق، في ظرف بضع سنوات من واحد من أوثق حلفاء الولايات المتحدة إلى واحد من أكثرهم استياءً منها، وبشكل تنتشر معه مشاعر معاداتها بقوة. غير أن العلاقات اليوم، وبفضل دبلوماسية ذكية وحس المسؤولية الذي أظهره الكونجرس على نحو غير متوقع وقرار بوش الصارم، عادت إلى حيث كانت قبل سنة 2001 تقريباً. وتعليقاً على هذا الموضوع، يقول مارك باريس، السفير الأميركي السابق في تركيا الذي يراقب اليوم العلاقات بين البلدين من مؤسسة "بروكينجز": "لقد أتمت العلاقة دورة كاملة، وهذا ما يبدو شيئاً جيداً بالنظر إلى حيث كنا"، مضيفاً: "وهذا يعني أن الإدارة المقبلة سترث على الأقل علاقة عادية، أو غير متوترة". ويؤكد هذا الانطباع الرئيسُ "غول"، وهو سياسي ذكي ومحنك عمل وزيراً لخارجية بلاده لفترة أربع سنوات قبل انتخابه رئيساً الصيف المنصرم حين قال خلال زيارة لصحيفة واشنطن بوست: "لقد باتت تلك التحديات خلفنا اليوم"، مضيفاً: "إننا نتقاسم القيم ذاتها -الديمقراطية وحقوق الإنسان والسوق الحرة. ونحن نعمل معاً بشكل جماعي من أجل الأهداف نفسها في المنطقة". بل إن "غول" ذهب إلى حد التنبؤ بحدوث تحول في الرأي العام في تركيا حيث لم تتعد معدلات التأييد الشعبي للولايات المتحدة رقماً واحداً في الصيف الماضي إذ قال: "إن هذا الشعور الذي تتركه استطلاعات الرأي ليس موجهاً إلى القيم التي نتقاسمها، مثلما أنه غير موجه إلى الأميركيين". ويعد "غول" ووزيرة الخارجية كندوليزا رايس المهندسين الرئيسيين لإعادة إصلاح العلاقات التركية- الأميركية. فقبل ذلك، ضحَّى المسؤولون الأميركيون في أوائل 2003، حينما لم يأذن البرلمان التركي لفرقة من الجيش الأميركي بعبور أراضيه من أجل غزو العراق. ووقتها كان "غول"، يعد ثاني أقوى شخصية في "حزب العدالة والتنمية" بعد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وحينها كانت رايس تشغل منصب مستشارة الأمن القومي في إدارة اعتَبرت بغير قليل من التعجرف أن اصطفاف حليف قديم لها يعد من المُسلَّمات، حيث تغاضت عن مخاوفه المشروعة بخصوص العراق، ومارست ضغوطاً على حكومة أردوغان من أجل تقديم التزام يخالف رأي وإرادة أغلبية الرأي العام التركي بعد أسابيع فقط من أول فوز لها في الانتخابات الوطنية. بيد أن رايس جعلت من تركيا في 2005 حينما أصبحت وزيرة للخارجية محطة ضمن أول جولة خارجية لها، لتؤكد بذلك على أن إعادة بناء التحالف الأميركي- التركي واحدة من أهم أولوياتها. وكان غول مستعداً لذلك؛ فمثلما يتذكر، فإنه طلب من رايس أن تضع قائمة بأهم أولوياتها، وبعد ذلك وضع قائمة خاصة به. ويقول: "لقد كانت لنا نفس المخاوف... العراق وأفغانستان وآسيا الوسطى والقوقاز وكوسوفو والبلقان والشرق الأوسط". الواقع أن أكبر نقطة خلاف بين الجانبين لم تكن العراق في حد ذاته، وإنما "حزب العمال الكردستاني"، وهو منظمة إرهابية كردية تنشط في تركيا استغلت الحرب لإنشاء قواعد جديدة لها داخل العراق. فعلى مدى أربع سنوات، كانت حكومة أردوغان تطلب من الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العسكرية الرئيسية في بغداد، القيام بشيء حيال "حزب العمال الكردستاني". ولكن البنتاجون كان يرفض دائماً. ووصلت العلاقات بين البلدين إلى ما يشبه الأزمة الخريف الماضي عندما أسفرت موجة من هجمات "حزب العمال الكردستاني" عن مقتل العشرات من الأتراك. ولكن في الخامس من نوفمبر، التقى بوش بأردوغان في البيت الأبيض واتخذ قراراً طال انتظاره يقضي باقتسام المعلومات الاستخبارية التكتيكية مع تركيا بخصوص مواقع "حزب العمال الكردستاني"، والسماح لأنقرة بتنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي العراقية. ثم تلت ذلك عمليات عسكرية وُصفت بالناجحة من قبل الأتراك. وإضافة إلى ذلك، تم سحب مصدر التوتر الآخر في العلاقات الثنائية -قرار لمجلس النواب الأميركي يصف مذبحة الأرمن في تركيا نهاية الحرب العالمية الأولى بـ"الإبادة الجماعية"- من قبل رئيسة المجلس نانسي بيلوسي تحت ضغوط من زملاء "ديمقراطيين". وبموازاة مع كل هذه الأمور، كانت تركيا تتغير. فقد أثبت حزب أردوغان، ذو الجذور الإسلامية، أنه يستطيع إدارة بلد علماني بدون المساس بالديمقراطية أو حقوق الإنسان. فالربيع الماضي، كادت إمكانية أن يصبح "غول" رئيسا للبلاد أن تثير انقلاباً عسكرياً؛ ولكن بعد الانتخابات التي فاز فيها حزبه بإقناع، باتت ولايته مقبولة ومعترفاً بها اليوم. في البيت الأبيض، قال بوش إن الحديث الذي دار بينه وبين ضيفه التركي "هو ما قد يتوقعه المرء عندما يجتمع صديقان في غرفة واحدة". ربما كان الأمر كذلك -ولكن ومثلما تعلمت هذه الإدارة بعد تجربة صعبة، فإن حتى الأصدقاء الحميمين لا ينبغي اعتبارهم مضمونين أو من المُسلَّمات. جاكسون ديل كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"