طالت عمليات الاغتيال والإعدام وحوادث القتل الغامضة العديد من أفراد الأسر ذات التاريخ السياسي والنضال الوطني، ليس في باكستان وحدها؛ بل في كثير من دول العالم مثل: الهند وإيران والعراق وأفغانستان والولايات المتحدة الأميركية ولبنان، ودول أخرى كثيرة، ولن تكون المناضلة "ابنة القدر" بنيظير بوتو آخرهم، طالما ظل المتطرفون والإرهابيون والمتربصون على قناعة تامة بأن القتل هو الحل، وعدم القبول بالحوار أو الرأي الآخر طريقاً للمواجهة، خاصة إذا كان من يعارضهم يملك الحجة والبيِّنة على سوء مسلكهم وخطأ توجهاتهم، بل إن هناك حالات اغتيال سياسي ومعنوي تطال الشعوب، الأمر الذي يثير تساؤلاً مهماً حول انعكاسات أو تداعيات هذه الاغتيالات داخلياً وخارجياً، أو بمعنى أدق: هل هناك فائدة أو عائد، مباشر أو غير مباشر، من هذه الاغتيالات من الناحيتين السلبية أو الإيجابية؟ عندما يتعرض رمز وطني للاغتيال فإن له انعكاسات كثيرة وفي اتجاهات شتى، قد يعتبرها البعض حصاد هذا الاغتيال، لأن هناك من سيقطف ثمار هذه العملية. يُعتبر الخصوم والمنافسون السياسيون أول المستفيدين، لأنهم تخلصوا من خصم شريف ومناضل له حضوره وتأثيره وشعبيته، ولذلك يستطيعون اقتسام الفراغ السياسي الناشئ عن الاغتيال فيما بينهم، ويضيِّقون من هامش المنافسة، ويتناسى الجميع الصراع السياسي الطاحن بينهم من أجل كسب ود أعضاء جدد مستثمرين حالة الحزن والانقسام التي تصيب الجماهير من جراء عملية الاغتيال، وحالة الأحزاب التي تصل إلى نحو 56 حزباً تعج بها الساحة السياسية الباكستانية ليست ببعيد، بل إن نواز شريف، أحد المنافسين السياسيين لبوتو بدأ استثمار عملية اغتيالها فور حدوثها، وأسرع بالمطالبة بإقامة حكومة وحدة وطنية موسعة بصورة فورية، ووجدها فرصة ليطالب برحيل الرئيس الباكستاني برويز مشرف. وحزب "الرابطة الإسلامية" الحاكم استفاد أيضاً من عملية الاغتيال، من خلال فرض سيطرته وتوسيع عمليات القبض العشوائي وتصفية الحسابات مع من يريد بزعم منع حدوث "حرب أهلية". أما الحلفاء والأصدقاء، فتُدخلهم عملية الاغتيال في حسابات معقدة بعد أن خسروا شخصاً قوياً يمكنهم الاعتماد عليه، وليبرالياً حقيقياً يستطيع أن يواجه حالة الانقسام الداخلي، بحثاً عن حليف جديد أو خليفة مناسب حتى لا تتأثر مصالحهم وتضيع مكاسبهم، ويحافظوا على قوة حضورهم، وفي زخم حالة الحزن العامة يمكنهم استغلال الفرصة والتقرب من بعض عناصر المجتمع من خلال إظهار التعاطف والمشاركة الوجدانية والدعم المادي، وفي النهاية قد يحققون بغيتهم مع من كانوا يناهضونهم من قبل، أو ربما يستطيعون إعادة ترتيب الأوراق الداخلية والتخلص من خصومهم، وهنا نجد المبرر للموقفين الأميركي والبريطاني مما حدث في باكستان، وإبراز تعاطفهما مع الشعب الباكستاني بالمطالبة بإقامة انتخابات حرة ونزيهة في بيئة ديمقراطية. أما الأعداء، فتتركز مكاسبهم في التخلص من خصم عنيد، وإن كانوا لا يملكون أي ضمانة على ضعف خليفته، مما قد يدفعهم مرغمين إلى عقد تحالفات واتفاقات مع خصوم آخرين ليستطيعوا فرض إرادتهم ومصالحهم، كما يمكنهم استغلال الفرص وتمرير أجندتهم والمطالبة بتداول السلطة أو فرض شخص بعينه للحكم، وهنا يبرز موقف المخابرات الباكستانية والمدارس الدينية وتنظيم "القاعدة" و"طالبان" أفغانستان بعد شعورهم بمدى التهديد الذي كانت تمثله بنيظير بوتو عليهم. أما بالنسبة للجهة المنفذة لعملية الاغتيال، فعلى الرغم من أنها ليست المستفيد الوحيد من عملية الاغتيال، بل ربما يقودها الأمر إلى التورط في سلسلة من الاغتيالات، فإن المكسب الأساسي لها هو إثبات قدرتها على التأثير في المعادلة السياسية، وإقناع الخصوم والحلفاء بدورها في صياغتها، وفي الوقت ذاته تدفع الجميع إلى أن يأخذوا بعين الاعتبار هذه الجهة إذا أرادوا فعل أي شيء، بعد أن تثير الخوف في نفوس جميع المناهضين لها، لذلك سرعان ما أعلنت "طالبان باكستان" بصورة مستترة عن تنفيذها العملية؛ ومن ثم يصبح التهديد الغامض أكثر تأثيراً، خاصة مع اندلاع حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد تتيح لها الفرصة للانتقام ممن تريد. وإذا انتقلنا إلى أسرة المغتال، فإنه يصعب قياس حجم الحزن والألم والمأساة التي نجمت عن هذا الاغتيال، إلا أن هذا لا يمنع من وجود عوائد مجزية للأسرة، ليس أقلها منح الفرصة لأحد أفرادها ليأخذ مكان المغتال ويواصل رسالته، لذلك فهو يحصد ثمار زرع السابقين، وينطلق من تعاطف المجتمع معه، وتزداد فرص نجاحه في الانتخابات، وهنا تبرز المهارة السياسية للقائمين على اختيار بديل بوتو والوقوف على شخص يمكنه كسب الجماهير في لحظة فارقة يتداخل فيها الانتماء الحزبي مع حالة الحزن مع السياسة ليصنع امتداداً واقعياً لشخصية وطنية اغتالها القدر، ويكون ذلك بمنزلة استمرار لوجودها واعتراف بفضلها وتحقيق للمبادئ التي ضحت بحياتها من أجلها. أما الحزب الذي يتزعمه المغتال، فسوف تزداد شعبيته، وإن كانت صدمة الاغتيال ربما تدفعه إلى إثارة الفوضى والانتقام للتنفيس عن غضبه مما حدث، مما يضغط على الحكومة القائمة وقد يدفعها إلى أحد خيارين لا ثالث لهما: التعاطف مع أعضاء الحزب واستيعاب مواقفه وتصرفاته، أو اتخاذ إجراءات قمعية وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وفي كلا الخيارين سيكسب الحزب مزيداً من المساحة السياسية أو تعاطف باقي الشعب. أما بالنسبة إلى الوطن والمواطن العادي، فإنهما سيدفعان الثمن من ارتفاع في الأسعار وانخفاض القيمة الشرائية للعملة الوطنية، وربما هروب المستثمرين، مما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي، نتيجة لانتشار الفوضى وعدم الاستقرار. ولكن عندما يجري اغتيال الشعوب سواء سياسياً أو معنوياً فإن الحصاد يختلف، خاصة إذا حدث هذا الاغتيال بسبب إرهاب أو احتلال أو انقلاب أو ثورة أو فتنة طائفية أو تزوير انتخابات واستفتاءات، ومن ثم يتم اختطاف الوطن واستلابه لصالح زمرة طامعة في السلطة تفرض سيطرتها على الحكم، فتركز على مصالحها الخاصة ومكاسبها الشخصية، دون أي اعتبار لمصالح الشعب أو الدولة، فيتم اغتيال الوطن بأسره، حيث نجد الآتي: * سوف تخسر جماعات المصالح جهودها مع الحكومة السابقة، ومن ثم تحتاج إلى إعادة حساباتها، وتبحث عن مدخل للوضع الجديد، وهو الأمر الذي حدث في إيران والعراق، عندما اندفعت جماعات المصالح لدعم أشخاص بعينهم، وهنا تظهر طبقة جديدة من الأثرياء ورجال الأعمال. * أما المنافقون وراكبو الموجة والمتسلِّقون، فسيتركز دورهم على الشعارات والخطاب الحنجوري دعماً للسلطة الجديدة، التي جاءت لتخرج الدولة من "الظلمات إلى النور"، ومن "حسرة الاعتقال إلى حريات الاغتيال"، ونظراً إلى أن الزعماء الجدد في حاجة إلى دور هذه الزمرة فإنها عادة ما تقربهم منها ليكونوا أبواقاً لها، وليس الحرس الثوري الإيراني إلا مثالاً على ذلك تحت دعوى حماية الثورة من خصومها والحفاظ على تمسك الملالي بكرسي الحكم، وحمل لواء الثورة إلى الخارج. * أحزاب المعارضة، إن وجدت، من المؤكد أنها سوف تنكمش إلى أن تجد الفرصة المواتية لتنقض على مراكز السلطة، لذلك تظل دائماً في صراع مع السلطة ومع نفسها، لتحصل على نصيب من كعكة السلطة، لذا فإن الإصلاحيين والمستقلين في إيران لا يختلفون كثيراً عن المحافظين المسيطرين على دفة الحكم. * أصحاب السلطة والسطوة يتمتعون بالثروة القومية، ويضحون بمصالح الوطن في سبيل استمرارهم في السلطة، ولا يهم انتشار الفقر أو البطالة أو تدني مستوى المعيشة طالما ظلوا بمنأى عنها ومتمسكين بكراسيهم، وهذا ما يبرر تمسك النخبة الحاكمة في إيران ببرنامج تخصيب اليورانيوم سعياً لامتلاك السلاح الذي يمنع أي قوة كبرى أو صغرى أن تهز عرشهم، ضاربين بمعاناة الشعب الإيراني عرض الحائط. توجد فوائد كثيرة سواء من اغتيال الأشخاص أو الشعوب، ولكن الثمن الرئيسي هو ما تدفعه الأوطان من ثرواتها واستقرارها وأمنها، وبات الأمر في حاجة إلى تشكيل محكمة عالمية للاغتيالات تقع على عاتقها مسؤولية التحقيق والحكم ومحاسبة المسؤولين عن الاغتيال وشن حرب على الاغتيالات على غرار الحرب على الإرهاب، فلا يكفي أن يظل العالم يشجب ويدين ويرفض الاغتيالات بأنواعها.