سوف يتذكر العالم ولفترة طويلة "بينظير بوتو" كامرأة مسلمة حضارية عملت لفترتين كأول رئيسة وزراء لباكستان. والحقيقة أنها امرأة ذكية جميلة جذابة مفوَّهة موهوبة شجاعة تتمتع بشعبية، وسياسيّة بارعة وزعيمة نادت بباكستان ديمقراطية علمانية. وقد تمتعت بينظير بجميع هذه الصفات، ولكنها مثلها مثل والدها "ذو الفقار علي بوتو"، وعدد من القادة الباكستانيين الآخرين، تركت أيضاً مساراً سياسياً ناقصاً أظهر العديد من مشاكل باكستان وكذلك ساهم فيها. لقد كانت بينظير بوتو مُصلحة مُجاهرة فشلت في فترتين رئاسيتين في إقرار تغييرات سياسية أو اجتماعية رئيسية. وكانت زعيمة لم تفعل سوى القليل للعدد الكاسح من الباكستانيين الفقراء الذين يعيشون في مجتمع تقليدي، وزعيمة نسائية بارزة لم تفعل سوى القليل، رغم وعودها كرئيسة للوزراء، لتحسين وضع المرأة أو عكس ما يسمى بسياسات ضياء الحق في نشر التوجه الإسلامي. كما كانت ديمقراطية علمانية عكست قيادتها لحزب الشعب الباكستاني وحكمها كرئيسة للوزراء بعض سياسات باكستان الإقطاعية، مع حديث عن الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان انتقدتها المنظمات الدولية بشدة. ومثلها مثل والدها "ذو الفقار علي بوتو"، فرضت بينظير السلطة عبر أسلوب تسود فيه كلمة شخص واحد، حسب بعض خصومها. وأعلنت نفسها زعيمة لحزب الشعب الباكستاني مدى الحياة، ولم تترك مجالاً للقيادة من بين زعماء الحزب الموهوبين، حيث أرادت للحزب أن يبقى تراثاً في أسرتها، كما ظهر من خلال "اختيار" ولدها وزوجها. وتبرز ردود الفعل السياسية الأخيرة حيال اغتيال بينظير بوتو المشاكل الرئيسية وخطوط الخلاف المتأصلة في الحياة السياسية الباكستانية اليوم، وهي مشاكل تفاقمت بشكل متزايد في عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. فقد أسرع كل من الرئيس بوش والرئيس مشرّف إلى إلقاء اللائمة فيما جرى على تنظيم "القاعدة" وغيره من المتطرفين الإسلاميين، ووضع عملية الاغتيال ببساطة في مضمون الحرب على الإرهاب الدولي والقوى المعارضة للديمقراطية. ولكن رغم خطورة هذه القوى، وخاصة مع نمو أعداد المقاتلين الباكستانيين وليس الأجانب، فإن هذا السيناريو أحادي التفكير يتجاهل التيارات المتضاربة القديمة في الحياة السياسية الباكستانية: مشكلة هوية عميقة ومتأصلة ولم يجرِ حلها، فيما يتعلق بالإسلام والهوية الوطنية الباكستانية والسياسة، ودور الأحزاب والحركات الإسلامية وصداماتها مع النخب العلمانية، وجيش قوي برز خلال سنوات طويلة من الحكم العسكري وليس الديمقراطي، ودور الزعماء الإقطاعيين السياسيين. ورغم أن محمد علي جناح، مؤسس البلاد وأول زعيم لها، رأى باكستان كوطن إسلامي إلا أن فهمه الأكثر اجتماعية- ثقافية لم يكن فهم الكثيرين الآخرين من الزعماء ذوي العقلية الأكثر تديناً. لذا، وبينما تبنّت باكستان هيكلاً سياسياً غربياً، أخذ العديد من الباكستانيين الهوية الإسلامية للدولة بشكل حرفي وجاد، كما اكتشف ذلك أيوب خان، الزعيم العسكري السابق الداعي إلى الحداثة، عندما اضطر لأن يتراجع عن محاولته إلغاء اسم البلاد "جمهورية باكستان الإسلامية". كما أن "ذو الفقار علي بوتو"، الاشتراكي العلماني، تحول هو نفسه إلى الإسلام بعد الحرب الأهلية بين باكستان وبنغلادش عام 1971 حتى يستطيع بناء جسور مع الدول العربية ومجابهة حزب الجماعة الإسلامية وغيره من الأحزاب الدينية وتعزيز قاعدته الشعبية. إلا أن التوجه نحو الإسلام أثبت أنه سلاح ذو حدين، حيث استخدم زعيم الجيش الذي عينه بوتو، وهو الجنرال ضياء الحق، الإسلام لإضفاء الشرعية على انقلابه وإعدام بوتو ونشر "التوجه الإسلامي" في باكستان. ومما يثير السخرية أن نواز شريف استخدم بعد سنوات طويلة ورقة الدين كذلك في كفاحه السياسي مع بينظير بوتو وحزب الشعب الباكستاني. والسؤال الآن: إلى أين نذهب من هنا؟ الواقع أنه نتج عن حرب باكستان والولايات المتحدة على الإرهاب و"تشجيع الديمقراطية" زيادة خطيرة في الإرهاب وتهديد للديمقراطية. لقد نما التطرف الديني في باكستان كما نما الإرهاب كذلك. ويُخشى ألا تصب الأزمة الراهنة إلا في فائدة المتطرفين. فقد زاد السياسيون الإسلاميون والأحزاب الإسلامية (في التيار الرئيس والمتطرفين منهم) من شعبيتهم الانتخابية، على الصعيد القومي، بما في ذلك السيطرة على إقليم الحدود الشمالية الغربية وبلوشستان. إن تشجيع مشرف للديمقراطية كان ورقة توت في أفضل حالاته، من حيث معالجة السياسة الانتخابية ببراعة، ودور المؤسسة العسكرية. ورغم أن مشرف قد نزع بزته العسكرية، يبقى الجنرالات سلطة قوية مؤثرة قادرة على التدخل في أية لحظة. ومما يؤسف له أن موت بينظير بوتو المأساوي نتجت عنه مرحلة جديدة من زعامة عائلة بوتو لحزب الشعب الباكستاني، إلا أنه خالٍ الآن من الشعبية والمواهب والتجارب التي كانت بينظير تتمتع بها. ويتطلب التحرك قدماً زعامة متنورة. وفي الوقت الذي أصبح فيه العداء الواسع للأمركة في باكستان محصناً أكثر فأكثر، كما حصل في أجزاء العالم الإسلامي وغير الإسلامي، يستطيع المرء على الأقل أن يأمل إرساء بعض العمل الأساسي لظهور قادة جدد. يتعين على مشرف أن يبدأ بإعادة إرساء قواعد شبيهة بالديمقراطية من خلال إعادة تأسيس محكمة باكستان العليا، والإعلان عن جدول زمني أكثر دقة للانتخابات الوطنية والسعي للعمل عن كثب مع الزعماء السياسيين ومن التيار الرئيس بدلاً من استغلال الوضع الحالي المتضعضع وبالتالي المساهمة بالمزيد من عدم الاستقرار. وتستبقي الولايات المتحدة، إذا أخذنا بالاعتبار سلطتها السياسية والعسكرية، القدرة والفائدة المضاعفة للعب دور بناء بصورة أكبر في باكستان، ولكن ذلك سيتطلب ما هو أكثر من مجرد البحث عن "مرشح أميركي" آخر يعين زعيماً لباكستان.