في أغسطس من العام الماضي، ألقى السيناتور "الديمقراطي" باراك أوباما، الذي يخوض الآن معركة السباق الانتخابي الرئاسي للعام الحالي، خطاباً واسع الانتشار، ورد فيه تعليق حول استمرارية الخطر الذي يشكله أسامة بن لادن لأمن بلادنا القومي. هذا ويسود الاعتقاد أن بن لادن لا يزال مختبئاً في مكان ما في المناطق الحدودية المشتركة بين باكستان وأفغانستان. ومما قاله "أوباما":"هناك إرهابيون يختبئون في تلك المناطق الجبلية، ونحن ندرك أنهم أزهقوا أرواح 3 آلاف أميركي، وهاهم يواصلون التخطيط لشن هجمات جديدة علينا. لقد كان خطأً فادحاً أن نعجز عن الفعل حين أتيحت لنا فرصة مهاجمة اجتماع لقادة تنظيم "القاعدة" في عام 2005. ومتى ما توفرت لنا معلومات استخباراتية، قابلة لتنفيذ العمليات على أساسها ضد أهداف إرهابية بعينها، فإن علينا أن نشرع في التنفيذ، حتى وإن لم يفعل الرئيس الباكستاني برويز مشرف". وقد أثارت تعليقات "أوباما" هذه، الكثير من الانتقادات في الولايات المتحدة، إلا أنها ووجهت بانتقادات أشد في باكستان، على خلفية أن تنفيذ عمليات كهذه إنما يعني انتهاكاً صريحاً للسيادة الوطنية الباكستانية، إضافة إلى ما تلحقه من ضرر بالغ بسمعة الرئيس برويز مشرف. وهناك من نظر إلى تلك التصريحات، على أنها تعبير عن ميل أميركا المستمر لتوجيه الضربات الاستباقية، متى ما رأت أن أمنها عرضة للخطر. وعليه فقد صحح "أوباما" تصريحه ذاك بقوله "إن إجراء كهذا لن يكون إلا خياراً أخيراً، ولن يحدث إلا في حال فشل الجهود الدبلوماسية في إقناع باكستان بالتعاون معنا". على أن هناك أكثر من سبب واحد، يعطي ذلك التصريح صدى أكبر الآن، مما لقيه في أغسطس من العام الماضي. ذلك أن الأزمة الدستورية الماثلة حالياً في باكستان، بسبب الجدل الدائر حول قيادة برويز مشرف للبلاد، إضافة إلى حادثة اغتيال بينظير بوتو زعيمة المعارضة هناك، جعلتا من مسألة الاستقرار السياسي لباكستان، أكثر إثارة للجدل مما هو عليه الوضع العراقي. وبسبب هذه الأهمية، فقد دفعت تطورات الوضع الباكستاني بقضايا السياسات الخارجية وإدارة الأزمات، عالياً إلى مقدمة أجندة الحملات الرئاسية الانتخابية الأميركية تارة أخرى. والحقيقة أن السياسات التي عبّر عنها "أوباما" في تصريحه المذكور، في معرض الإفصاح عما ينوي فعله في حال توليه منصب الرئيس، هي نفسها السياسات التي عبّر عنها بقية المرشحين الرئاسيين، سواء كانوا "ديمقراطيين" مثله أم "جمهوريين". ذلك أن توجيه ضربات عسكرية إلى زعيم تنظيم "القاعدة"، لا يمكن تصنيفه ضمن ما يعرف بالحرب الاستباقية، طالما أن الولايات المتحدة وتنظيم "القاعدة"، يخوضان الحرب سلفاً على بعضهما البعض. ولكن المشكلة أن التصحيح اللاحق الذي صدر عن "أوباما" لتصريحه الأول، لم يصمد أمام الاختبار العملي، وهو القول بأن خيار توجيه الضربة الأحادية للأهداف الإرهابية من قبل الولايات المتحدة، لن يكون إلا خياراً أخيراً، في حال فشل الجهود الدبلوماسية في إقناع باكستان بالتعاون معها. فالاختبار العملي والواقعي يقول إنه لا سبيل لإبطاء التنفيذ مطلقاً، متى ما توفرت معلومات استخباراتية مؤكدة، عن تواجد أسامة بن لادن أو غيره من قادة التنظيم في مكان ما، ومتى ما أتيحت فرصة سانحة لقتله أو إلقاء القبض عليه. وبالنظر إلى الشكوك المثارة مسبقاً حول وجود صلات ما ببعض أعضاء حكومة مشرّف وقادة تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان"، فإنه ليس مستبعداً أن تجد أي مداولات دبلوماسية بشأن تعاون إسلام أباد مع واشنطن في توجيه ضربة لهدف إرهابي محدد من هذه الأهداف، طريقها إلى الأهداف المعنية، وبالتالي تنبهها إلى خطر تعرضها لضربة يجري الإعداد لها ضدها. وعليه فربما كان المطلوب في هذه الحالة، هو توجيه إنذار عاجل لكل من باكستان والهند بالإعداد لضربة عسكرية، حتى لا يختلط الأمر على الدولتين الجارتين في حال وقوعها، فتحسب كلتاهما أن الأخرى تتحرش بها عسكرياً وتوجه ضربة استباقية لها. وهذا هو ما أكدت عليه السيناتورة هيلاري كلينتون، خلال خطابها الانتخابي الرئاسي الذي ألقته في ولاية نيوهامبشاير في الخامس من يناير الجاري. غير أن "أوباما" يثير الانتباه بشدة إلى جدية المخاطر الأمنية التي تواجهها منطقة جنوبي آسيا كلها، خاصة مع استمرار الحرب الأفغانية حتى الآن، وعلى إثر تفاقم الأزمة السياسية الباكستانية، مضافاً إليهما استمرار النزاع الباكستاني الهندي حول إقليم كشمير، وبلوغه عامه الستين. وليس أكثر إثارة من القلق، من الحقيقة القائلة بحيازة كل من الجيشين الباكستاني والهندي للعشرات، إن لم تكن المئات من قطع الأسلحة النووية، مع العلم بسعي أسامة بن لادن الحثيث، للحصول على هذه الأسلحة بأي ثمن كان. لكن ومن حسن الطالع أن المؤسسة العسكرية الهندية تخضع للرقابة المدنية الصارمة، في حين لم تتوفر حتى الآن أي أدلة على تهاون الجيش الباكستاني في السيطرة على ترسانة أسلحته النووية. بيد أنه لا أساس للاطمئنان على استقرار هذا الوضع الأمني، خاصة وأن مصرع "بوتو" لم يكن سوى الحلقة الأخيرة من سلسلة الهجمات التي شنتها الجماعات الإسلامية المتطرفة، على القيادات الباكستانية العلمانية، وخاصة على إقليم السند الذي تنحدر منه زعيمة المعارضة "بينظير". ولذلك فإن الواجب الأكثر إلحاحاً هو ضمان وجود حكومة مستقرة في إسلام أباد. والتعبير العملي عن هذا الواجب، هو تقديم الدعم اللازم للرئيس برويز مشرف، خاصة إثر تخليه عن منصبه العسكري، في ذات الوقت الذي نواصل فيه الضغط والدفع باتجاه إجراء انتخابات حرة ونزيهة، لا يزال الجدول الزمني المقرر لها هو شهر فبراير المقبل. والأمل أن يحرز الساسة المعتدلون أغلبية كبيرة في البرلمان الباكستاني، وأن يتمكنوا من فرض سيطرتهم على الإسلاميين المتطرفين، بعون ومؤازرة الرئيس مشرّف. ولكن كانت تلك هي الخطة الأميركية السابقة لاغتيال بوتو. وعليه فلا يزال مجهولاً ما إذا كان نواز شريف، خلَفُها في زعامة المعارضة، سوف يمضي على النهج نفسه أم لا؟ ومما يثير الشكوك والمخاوف، شدة العداء والجفوة بين نواز شريف والرئيس برويز مشرف. وفيما لو أخفقت انتخابات فبراير هذه في تحقيق أهدافها، فإنه ليس مستبعداً أن تعصف الأزمة الباكستانية بنظيرتها العراقية. وفي غضون ذلك، تظل الأزمتان الإيرانية والإسرائيلية-الفلسطينية، في مقدمة تحديات السياسات الخارجية التي تواجهها كل من الولايات المتحدة الأميركية والدول المجاورة لباكستان.