بالحديث المعسول عن الرأسمالية الشعبية وظفت السيدة "مارجريت تاتشر" أهم اكتشاف في التاريخ الاجتماعي والنفسي للبشر وهي السلطة التي لا تكاد تقاوم للجشع. وبفضل هذه السلطة تمكنت الرأسمالية من اجتياح خصومها لفترة طويلة نسبياً امتدت من نهاية السبعينيات إلى الأعوام القليلة الماضية. ما تم في الحقيقة هو ترويج أسطورة الرأسمالية الشعبية على المستوى القومي في انجلترا، وفي عدد من الدول الرأسمالية المتقدمة الأخرى, ثم عولمة هذه الأسطورة ثم الاهتمام والنجاح في تعريبها وجعلها أساس الانطلاق الاقتصادي في مصر ودول الخليج، وبدرجة أقل المغرب والجزائر وبعض الدول العربية الأصغر. تنتمي أسطورة الرأسمالية الشعبية لمجال الدعاية المحض. وهي تماثل الاعتقاد الذي تم ترويجه طويلاً بأن لاس فيجاس ابتكرت فلسفة جديدة للمقامرة لا يسيطر عليها أحد، لأنها تُجرى عن طريق آلالات الميكانيكية ثم الإليكترونية! والواقع أن ميكانيكية نشر تلك عقيدة الرأسمالية الشعبية تشبه إلى حد بعيد جداً ميكانيكا المقامرة سواء في لاس فيجاس أو في أي مولد شعبي في قرية مصرية أو موريتانية. هي ميكانيكية بسيطة ومجربة وقلنا إنها لا تكاد تقاوم طالما عشت ولو دقائق في مجالها الأسطوري الحيوي. فلديك فرصة للكسب دون شقاء أو تعب، وعليك فقط أن تحاول لمرة أخيرة وتكتشف قوة هذه الميكانيكية بكل بساطة، لأنك لا تيأس حتى بعد أن تخسر عشرين مرة! وخسارة عشرين مرة هي في الواقع ما حدث لملايين من البريطانيين ومن الجنسيات الأخرى في بورصة مارجريت تاتشر. وعرت تطورات ربع قرن من الازدهار غير المسبوق للرأسمالية البريطانية وللبورصة البريطانية بالذات هذه الأسطورة. فرغم أن كثيرين من أبناء الشعب البريطاني صاروا يملكون أوراقا مالية، فإن ملكية هذه الأوراق وعمليات التداول في البورصة متمركزة بصورة مخيفة بيد عدد محدود نسبياً من مؤسسات الأعمال والشركات والصناديق. يقارن أنصار "الرأسمالية الشعبية" الأسطورة التي جاءت بها السيدة "تاتشر" بتعميم التداول في البورصة ليصل إلى أبسط الناس بما حدث من تطور ثوري بدءاً من ستينيات القرن التاسع عشر عندما برزت الشركة المساهمة الحديثة. وأهم ما في هذا التجديد الأخير هو فصل الملكية عن الإدارة. وانطلاقا من هذا التجديد روج الاقتصاديون الكلاسيك فكرة تقول إن الرأسمالية لم تعد تخص رجال المال وإنما أصبحت تخص أكثر من لديهم مواهب حقيقية في الإدارة. وبذلك يتم تحييد المشاعر المعادية لرأس المال أو للمال الذي سبب كل هذه المعاناة حتى في بلد مثل انجلترا التي تكاد تكون قد ابتكرت الرأسمالية. إن هذا التبرير يعيد للأذهان حاجة الرأسمالية لإيجاد تبرير أخلاقي وليس فقط لتمجيد المال. ومع ذلك يبقى تمجيد المال هو الآلية الأكثر فعالية بما لا يقاس. ويقول أنصار السيدة "تاتشر" إن نشر ملكية الأسهم ينهي التمايز الطبقي ومن ثم ينهي الفقر بل والصراع الاجتماعي. فالرأسمالية لا تهم فقط من لديهم مال كثير أو مواهب إدارية وتنظيمية وتكنولوجية وعلمية بل صارت تهم الشعب كله لأنه يتحول بنسبة كبيرة إلى مالك. والواقع أنه رغم الكثافة غير العادية لهذه الدعاية، فقد فشلت في انجلترا. وتبين للناس عموما أولاً أن نشر ملكية الأسهم لا يعني إطلاقاً نشر السيطرة على عمليات البورصة أو على سياسات وقرارات الشركات الرأسمالية عموما. ويكاد يكون ذلك أمرا بديهياً، ولكن الجميع بدا وكأنه نسيه تماماً بسبب سلطة الأسطورة. والأهم أن كل الجهد الذي بذل في نشر ملكية الأسهم والسندات وغيرها من الأوراق المالية، لا يعني أن الرأسمالية، ولا أن البورصة صارت شعبية! بل على العكس تماماً: لقد تضاعف مستوى الاحتكار في تكوين الرأسمالية بعد تاتشر على نحو لم يحدث في التاريخ. وقد لا تهم هذه النتيجة ملايين من الناس الذين اقتنعوا بوضع أموالهم في البورصة. أما ما يهمهم فعلاً، فهو أن ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن خسائر قطاع صغار المضاربين والمستثمرين في البورصة البريطانية تزيد عن مكاسبهم على المدى الطويل، وذلك بالرغم من الازدهار الخارق للاقتصاد البريطاني خلال ربع القرن الماضي. الميكانيكية التي تحرك هذا التدفق المذهل للمدخرات الصغيرة في اتجاه البورصة ليست سوى وهم. لقد تعرفنا بصورة مباشرة على هذا الوهم مع انفجار فضيحة سوق "المناخ" بالكويت في السبعينيات، ولكن ما حدث في تجربة شركات توظيف الأموال في مصر خلال الفترة 1980-1988 يعد تراجيديا حقاً إن شئت ويعد كوميديا إن شئت أيضاّ! التراجيديا واضحة بذاتها حيث خسر المدخرون الصغار ما يربو على 5 مليارات دولار بنهاية عام 1988. أما الكوميديا، فهي أنهم واصلوا البحث عن شركات توظيف جديدة ليضعوا فيها مدخراتهم. وكانت نفس ميكانيكية الحفز تعمل بقوة فريدة حيث كان أصحاب تلك الشركات يوزعون عائداً يصل إلى 25% و30% وهو ما كان يتم من الإيداعات الجديدة! وكانت تلك هي النسخة الشعبية حقاً من الرأسمالية الشعبية التي دعت لها "مارجريت تاتشر". أما النسخة الرسمية، فجاءت مع الدعاية الكثيفة للاستثمار في البورصات. فما أن تعلن شركة ما تعويم بعض أسهمها في البورصة، كما حدث مع شركة الاتصالات المصرية منذ نحو عام ونصف، حتى ترى مشهدا عجباً: أمة بكاملها تقريباً تستيقظ مبكراً جداً ذات يوم لتسحب ودائعها أو تصفي أصول لها في كل مكان لكي تأتى بالأموال التي تشترى بها الأسهم. وكان الاستماع لتفاصيل تلك الأحداث يصنع ليلة شديدة الإثارة ويثير الضحك في جلسات النميمة القاهرية. وكان الخبثاء يعرفون أن مدخرات الملايين ستصير سريعاً عصفا مأكولاً! ومع ذلك، فإن ما يحدث مع بورصة القاهرة ليس سوى نكتة أو عينة صغيرة جداً مما يحدث في أماكن أخرى. إن مئات الآلاف من صغار الموظفين والمدرسين والإداريين في الشركات الخاصة وفي الهيئات الحكومية صاروا يتابعون باهتمام شديد كل ذبذبة في حركة الأسعار. كل ذلك لم يحدث بالصدفة. فهو بالفعل جزء لا يتجزأ من التصورات التي تكونت عن مستقبل المنطقة العربية وخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق والكيفية التي يتم بها تعميق الشرعيات السياسية والاقتصادية وإيجاد منافذ للتعبير والتنفيس بأكثر من إيجاد منافذ للاستثمار المربح حقاً. ومن الطريف فعلاً أن تستمع إلى مدرسات اللغة الإنجليزية في السعودية أثناء متابعتهن لما يحدث للبورصة السعودية وهن يقضين زيارتهن للقاهرة. فالسيدات السعوديات صرن من أنشط المستثمرين الصغار في البورصات المحلية والعربية بل والدولية أحياناً. ما حدث في تقديري هو أنه إلى جانب صناعة استخراج النفط صارت هناك صناعة أخرى موازية ومكملة وهي صناعة الجشع. وقد صارت هذه الصناعة الأكثر عائداً واتساعاً في جميع البلاد العربية. ومثلما يحدث مع ميكانيكية الكسب في القمار لابد أن يكسب المستثمرون الصغار خلال فترات زمنية طويلة نسبياً حتى يتم الاجتياح الكامل لأية مقاومة. ولكن يوماً ما يستيقظ هؤلاء المستثمرون على واقع تبخر ثروتهم كلها، فيكتشفون أن أسطورة الكسب طارت، وأن عليهم أن يتقبلوا الخسارة بروح رياضية، والمذهل أنهم يتقبلونها بالفعل بروح رياضية. ويعني ذلك إما أن روح "الرأسمالية الشعبية" قد تسربت بالفعل لجماهير واسعة للغاية وأن "تاتشر" قد انتصرت في العالم العربي بأكثر مما انتصرت في أي مكان آخر أو أنك ما أن تفتح آبار الجشع يصبح من المستحيل وقف التدفق! والسؤال هو ما هي إذا قيمة الحقيقة أمام أسطورة أو أوهام تطور الرأسمالية والاقتصاد في العالم العربي.