لقد مثل الثالث من يناير الجاري، انتصاراً مذهلاً بكل المقاييس، للسيناتور باراك أوباما في ولاية "آيوا". ذلك أنه استطاع طوال الفترة السابقة من حملته الانتخابية، هزيمة كل المستحيلات التي رسمها الخبراء والمحللون عن احتمالات صموده في المنافسة الانتخابية، واصفين إياه تارة بـ"عدم النضج" وتارة أخرى بـ"نقص الخبرة" وما إلى ذلك. لكن على رغم كل شيء، فقد كان الفوز من نصيبه بانتخابات ولاية "آيوا" التمهيدية، الخاصة باختيار المرشح "الديمقراطي" للرئاسة. ولإصدار حكم موضوعي على هذا الفوز، علينا الأخذ بالاعتبارات والعوامل التالية. أولاً، وقوفه بصفته عضواً في الكونجرس لفترة واحدة فحسب، في منافسة عدد من قدامى أعضاء الكونجرس من "الديمقراطيين". فإلى جانب منافسته لاثنين من كبار أعضاء الكونجرس، وحاكم ولاية يتمتع بشعبية كبيرة، تمكن أوباما من منافسة هيلاري كلينتون، والسيناتور السابق جون إدواردز. وبسبب اصطحاب هيلاري كلينتون لزوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون، على امتداد الولاية كلها أثناء حملتها، فقد برزت في بادئ الأمر، وكأنها الفائز بمنافسات "آيوا" لا محالة. أما منافسه الآخر، جون إدواردز، المرشح لنائب الرئيس عن الحزب "الديمقراطي" في انتخابات عام 2004، فقد انتهى به الأمر لاحتلال المرتبة الثانية في انتخابات "آيوا"، خاصة أنه لم يتوقف منذ عام 2005 عن خوض المنافسات الانتخابية في هذه الولاية. ثانياً، أن هامش الفوز الذي أحرزه أوباما 38 في المئة، قياساً إلى 30 في المئة لصالح إدواردز، و29 في المئة لصالح هيلاري كلينتون، يعد أكبر من ذلك الذي كان قد أحرزه المرشح الرئاسي "الديمقراطي" السابق، جون كيري، الذي كان قد فاز بانتخابات ولاية "آيوا" في عام 2004. وليس ذلك فحسب، بل إن الواقع يشير إلى أن الهامش الذي أحرزه أوباما، أكبر من ذلك الذي أعلن رسمياً عبر شاشات التلفزيون. ثالثاً، أن إجمالي عدد الأصوات التي أحرزها أوباما، يفوق إجمالي عدد الأصوات التي أدلى بها الناخبون "الجمهوريون" لصالح حزبهم في الولاية، على رغم أنها تعد "ولاية حمراء" أي أنها أكثر ميلاً لصالح الحزب "الجمهوري" عادة! وعلى رغم توقعات الكثيرين بأن إجمالي عدد الناخبين الذين سيدلون بأصواتهم في انتخابات هذه الولاية، لن يتجاوز إجمالي المرات السابقة، أي أن يزيد على 200 ألف ناخب بقليل، إلا أن أحداً لم يتوقع أن يبلغ عدد الذين صوتوا لصالح الحزب "الديمقراطي" وحده، 232 ألف ناخب، إلى جانب تصويت 116 ألفاً آخرين لصالح الحزب "الجمهوري". وبالمقارنة، فقد كان إجمالي الناخبين الذين صوتوا فيها في انتخابات عام 1988، هو 233 ألفاً، و206 آلاف في انتخابات عام 1980. وهكذا أثبتت انتخابات "آيوا"، تقدُّم وضع المرشح أوباما، باعتباره أقوى المرشحين "الديمقراطيين" لانتخابات نوفمبر من العام الحالي. وفي الوقت الذي انصبت فيه جهود منافسيه الآخرين، كهيلاري كلينتون وجون إدواردز، على القواعد الناخبة الحزبية، تمكن أوباما من اختراق الخطوط الحزبية، وكَسْبِ عدد كبير من المؤيدين له من بين صفوف الحزب "الجمهوري" والناخبين المستقلين. ويأتي هذا بمثابة دليل على ما ورد في ذلك الخطاب القوي الذي ألقاه أوباما أمام جمهور الناخبين، بمناسبة فوزه بانتخابات "آيوا" ليلة الخميس الماضي. ففي حين وجّه كل من منافسيه جون إدواردز وهيلاري كلينتون، رسالتيهما لناخبيهما "الديمقراطيين" في الولاية، فقد اختلف عنهما أوباما، بتوجيه رسالة رئاسية إلى عامة الجمهور، وكأنها خطاب رئاسي موجه للأمة الأميركية كلها. بل لقد لاحظ أحد المحللين في اليوم التالي لانتخابات "آيوا" مباشرة، أن أوباما هو الوحيد الذي انفرد بين كافة المرشحين "الديمقراطيين" و"الجمهوريين"، بتجاوز واختراق خطوط الانتماء الثنائي الحزبي في خطابه للجمهور، وهو الأمر الذي مكنه من كسب مؤيدين كثيرين له بين صفوف الحزبين، إلى جانب تأييد عدد لا يستهان به من المستقلين. ولئن كان القصد من انتخابات ولاية "آيوا"، أن "تغربل" المرشحين الرئاسيين وتختار أقواهم وأقدرهم على بلوغ المرحلة النهائية من الترشيح الرئاسي، فها هي قد أدت دورها بفوز أوباما فيها، ليذهب إلى ولاية نيوهامبشاير حاملاً معه ما حصده في "آيوا".