خرجت أميركا من الانتخابات الرئاسية الأخيرة مقسمة وتخوض حروباً، وتواجه كساداً اقتصادياً مع وصول سعر برميل النفط إلى 100 دولار للبرميل، وزيادة أزمة الرهن العقاري. وتبدو اليوم بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى قائد يوحِّدها ويداوي جراحها ويخرجها من الحرب والكساد. وشعار الحملات الانتخابية الآن هو التغيير، حيث يرى أكثر من ثلثي الأميركيين أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ. فمن يملك من المرشحين لمنصب الرئاسة من الحزبين القدرة على إحداث هذا التغيير المنشود؟ سيقرر الناخب الأميركي ذلك في نوفمبر القادم. ولكننا سنشهد خلال الأشهر الستة القادمة الانتخابات التمهيدية المتعددة في الولايات، من تصفيات داخل كل من الحزبين الرئيسين. ونبدأ من الحزب "الجمهوري" الحاكم الذي يسيطر على البيت الأبيض والسلطة القضائية، والذي يتخذ "الفيل" شعاراً، ويتنافس على الفوز بترشيحه ثمانية مرشحين، ثلاثة منهم لديهم فرص منافسة واقعية، وهم مايك هوكابي القس المعمداني وحاكم ولاية أركنساس السابق والسياسي المغمور حتى فوزه في "آيوا"، والذي يعول على أصوات الناخبين المحافظين. ثم المليونير وحاكم ولاية ماساتشوستس السابق "ميت رومني" الذي يعتنق ديانة المورمون وهو مسلح بالمال والإعلام وقد حل ثانياً في "آيوا". والسيناتور المخضرم وأسير حرب فيتنام "جون ماكين". ثم هناك رودي جولياني عمدة مدينة نيويورك الذي بدأت حظوظه في التراجع مؤخراً. أما الحزب "الديمقراطي" الذي يتخذ من "الحمار" شعاراً له، والذي غاب عن البيت الأبيض طوال فترتي حكم الرئيس بوش الابن، فقد سبق أن حقق انتصاراً في انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر 2006 واستعاد أغلبيته في مجلسي النواب والشيوخ، ويبدو متوثباً ويسعى لاستعادة البيت الأبيض، حيث يتنافس ثمانية مرشحين -انخفضوا إلى ستة بعد انسحاب رئيس لجنة الشؤون الخارجية السيناتور جوزيف بايدن صاحب فكرة تجزئة العراق عبر نظام الفيدرالية المناطقية، والسيناتور كريستوفر داوود- ويملك ثلاثة من المرشحين فرصاً واقعية في التنافس على ترشيح الحزب "الديمقراطي" وهم السيناتور السابق والمرشح لنائب الرئيس 2004 جون إدواردز، المتواري والذي حل ثانياً في "آيوا"، ثم تأتي السيناتورة عن ولاية نيويورك والسيدة الأميركية الأولى السابقة هيلاري كلينتون، التي توصف بالفوقية وأنها مرشحة تقسِّم أكثر مما تجمع، ولديها مواقف رمادية وتمثل الاستمرار لسياسات واشنطن المطلوب تغييرها. ويؤخذ عليها تصويتها لحرب العراق، ثم تذبذبها وانتقادها للحرب، والدعوة لسحب القوات في مواقف متناقضة. وقد دفعت ثمن ذلك كله عندما حلت ثالثة في انتخابات "آيوا" التمهيدية للحزب "الديمقراطي" مما يشكل انتكاسة كبيرة قد تؤثر على فرص فوزها في الانتخابات التمهيدية الأخرى. وإذا لم تفز بانتخابات ولاية نيوهامبشاير غداً فسيكون من الصعب إيقاف خصمها المتحفز، وهو السيناتور الشاب الأسود الذي يدور نقاش حول بشرته وهل هو "أسود كفاية" كونه أقرب للسمرة منه للأسود والمقصود طبعاً باراك حسين أوباما، وهو من أب مسلم كيني أسود وأم أميركية بيضاء. وإذا كان الأميركيون بالفعل يسعون إلى التغيير الحقيقي فإنهم لن يجدوا أفضل من أوباما لتلك المهمة، وهو الذي يصف نفسه "بالشاب النحيف الذي يحمل اسماً ظريفاً". أوباما الذي يتناغم اسمه مع أكثر الأسماء كرهاً في أميركا "أسامة"، والسيناتور الذي انتخب عام 2004 لأول مرة، فاز في الذكرى الأربعين لمقتل داعية حقوق الإنسان الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ، الذي قاد ثورة إصلاحية لمنح السود حقوقهم في أميركا قبل أربعة عقود مضت. نتائج انتخابات "آيوا" مهمة ولكنها ليست حاسمة. و"آيوا" ليست المؤشر الصائب لمسار الانتخابات، فالطريق لا يزال طويلاً وشاقاً ومكلفاً. صحيح أنها صانعة الرؤساء لتقدم انتخاباتها على بقية الولايات مع صغرها وقلة شأنها. ولكن الصحيح أيضاً أن الرؤساء ريغان وبوش الأب وكلينتون خسروا فيها. ولكنها تمنح الفائز القفزة المطلوبة في بداية سباق الرئاسة، والسمعة وتسليط أضواء الإعلام، وتمنحه فرصة أكبر ليتابع مواقفه الناخبون مما يعطيه زخماً ودفعاً يميزه عن خصومه، وهو ما حصل الآن مع أوباما. والسؤال الكبير هو: هل أميركا مستعدة وجاهزة لانتخاب رجل أسود أو امرأة أو قس رئيساً؟ يبدو أن أحد هؤلاء سيكون رئيساً بالفعل قبل نهاية العام. وغير خالٍ من الدلالة أن كلينتون وزوجته سارعا لتحذير الناخبين قبل وبعد "آيوا" من خطورة المقامرة والآمال الكاذبة في إشارة إلى أوباما، وعلى ما يبدو فلم يقتنع بذلك التحذير 38% من الآيويين. وإذا تكرر ذلك في الولايات الأخرى فإن فرص تحول الحلم إلى حقيقة ستكون كبيرة. وإذا تحقق ذلك فستكون هذه الانتخابات علامة فارقة ومفصلية في التاريخ الأميركي، ولحظة من لحظات صناعة التاريخ. والأهم من كل شيء آخر هو تصالح أميركا مع نفسها وإرثها وتاريخها بشكل أسرع مما توقعه أكثر الناس ليبرالية وتفاؤلاً. فهل سيفاجئنا الناخب الأميركي مثلما فاجأنا جميعاً ناخبو "آيوا"؟ سنتابع ونعلق في أكثر من عودة لأهم انتخابات في تاريخ أميركا والعالم.