من المؤكد أن عنوان هذا المقال سيثير الكثير من الأسئلة حول العلاقة بين النفط و"المكياج"، فالجميع يعرف النفط كسلعة استراتيجية عالمية، وجنون أسعاره التي فاقت كل التوقعات جعلته الحاضر الغائب في السياسة الدولية، أما المكياج الذي نقصده فهو الذي يجري استخدامه لإخفاء العيوب أو لستر الأخطاء أو لتحسين الصورة، وفي النهاية تبقى الحقيقة الصادمة، ومهما توارت خلف المكياج فإنها ستتضح للعيان ولو بعد حين. فارتفاع أسعار النفط في الربع الأخير من عام 2007 قاد إلى أكبر عملية تحوُّل للثروة في التاريخ، من مستهلكي النفط إلى الشركات والمنتجين، إلا أن هذه الثروة أصبحت بمنزلة مكياج يُخفي وراءه الوجه المظلم لحقيقة اللاعبين الكبار في سوق النفط العالمية، والذين تتركز مصالحهم في ارتفاع الأسعار. وبمراجعة سريعة لأسماء أهم أعضاء الإدارة الأميركية، نجد معظمهم يمتلك شركات نفط، أو نجدهم مستشارين لها أو أعضاء في مجالس إدارتها، ويمكن أن نطلق عليهم "محور النفط"، حتى الرئيس بوش الصغير وعائلته لهم باع طويل في عضوية هذا المحور، من بين مظاهره تأسيسه عام 1997 لشركة "أربيستو إنرجي"، وقيام الأخيرة بشراء شركة "سبيكتروم إنرجي" ومنح بوش راتباً سنوياً مقداره 75 ألف دولار و16.5% من أسهمها. ويجب أن نتذكر هنا قيام الرئيس بوش الأب، حينما كان نائباً للرئيس ريغان، بمحاولات إقناع دول الخليج بعدم ضخّ المزيد من الإنتاج حتى لا تصاب أسعار النفط بالانهيار، وتظل على وتيرة الارتفاع، بما ينعكس بدوره على شركات النفط الأميركية المحلية. ثم جرى اندماج شركة "سبيكتروم إنرجي" التي تعثر أداؤها، مع "هاركين أويل آند جاز" التي حصلت، بمجرد دخول بوش الابن مجلس إدارتها، على فرص استثمارية مربحة للغاية مع مملكة البحرين رغم ضآلة حجم الشركة. كما أن الكثير من كبار مديري شركات الطاقة الأميركية دعموا حملة بوش الصغير لخوض انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، سواء للفترة الرئاسية الأولى أو الثانية، وقبلها كان قد حصل على دعم قوي من قطاع الطاقة والنفط وكبار اللاعبين فيه، مما مكنه من تولي منصب حاكم ولاية تكساس في عام 1994، وإعادة انتخابه عام 1999. كما أنه بمجرد انتخاب بوش الصغير رئيساً خرجت صحيفة "أويل آند جاز جورنال" تقول في تقرير لها بشأن قرار "أوبك" المتزامن آنذاك بخفض إنتاجها بنحو مليون برميل يومياً اعتباراً من أول إبريل 2001، إن بوش الصغير يفضل حدوث ارتفاعات في أسعار النفط متحدياً بذلك مصالح الفعاليات الاقتصادية والمستهلكين، وأن هذا الأمر أسعد منتجي البترول ملاك حقول النفط في تكساس و23 ولاية أميركية أخرى منتجة للنفط. أما القطب الثاني في "محور النفط"، كوندوليزا رايس، التي اختارها بوش مستشارة للأمن القومي ثم وزيرة للخارجية، فقد كانت مديرة بشركة "شيفرون" النفطية الأميركية عام 1991، وعقب توليها المنصب أعلنت "شيفرون" عن مشروع برأسمال مشترك لتطوير حقول نفط "تانجيز" في كازاخستان، واستثمارات أخرى في بحر قزوين. كما أن مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، زالماي خليل زاد، مستشار لمؤسسة "يونيكال" النفطية، وقد لعب زالماي خليل زاد دوراً بارزاً في مفاوضات "يونيكال" مع حركة "طالبان" حول مشروع إقامة خطوط أنابيب غاز طبيعي من بحر قزوين إلى شواطئ باكستان، وهي المفاوضات التي توقفت حينما شنّ كلينتون هجماته الصاروخية على أفغانستان عام 1998 لاستهداف أسامة بن لادن بعد تفجيرات نيروبي ودار السلام. أما القطب الثالث في "محور النفط" بالإدارة الأميركية، ديك تشيني، نائب الرئيس الأميركي، فهو نفسه الذي شجّع بقوة بوش الأب على خوض حرب من أجل النفط عام 1991، وفي عام 1994 لعب دوراً رئيسياً في إتمام صفقة إنشاء كونسورتيوم مالي لنقل النفط من حقول "تانجيز" الكازاخستانية. كما أصبح تشيني واحداً من بين سبعة أعضاء فخريين في مجلس مستشاري غرفة التجارة الأذربيجانية- الأميركية، التي كانت تعمل على تشجيع الشركات النفطية الأميركية على التنقيب والاستكشاف النفطي في البلدان المطلة على بحر قزوين. ثم اختير تشيني رئيساً تنفيذياً لشركة "هاليبيرتون" بولاية تكساس مدينة دالاس، وتحولت على يديه من شركة خدمات نفطية، لتصبح الأضخم على مستوى العالم في هذا القطاع، ويعمل بها 85 ألف عامل في أكثر من 100 دولة في أرجاء متفرقّة من العالم. ولم تكن الحرب على العراق وإزالة نظام صدام حسين الديكتاتوري سوى خطوة نحو السيطرة على نفط العراق، وما يتيحه ذلك لبوش الصغير من فرض هيمنته غير المباشرة على اقتصاد القوى المنافسة في أوروبا وآسيا. وارتفاع أسعار النفط يصب في مصلحة واشنطن بالدرجة الأولى، ويمثل مكياجاً صارخاً لإخفاء نواياها ومصالحها، فمن ناحية نجد أن الأسعار المرتفعة تشغل العالم عن مخططات الإدارة الأميركية، ومن ناحية أخرى تعوض الزيادة في الأسعار التكلفة العالية للحرب الدائرة في العراق، ومن ناحية ثالثة لا يخفى على أحد العائد المادي الكبير لشركات النفط الأميركية والقائمين عليها، سواء كانوا في الحكم أو خارجه، فكلهم مستفيد. كما تؤدي زيادة فاتورة النفط المستورد إلى خفض معدلات الادخار، وزيادة الاستهلاك، وخفض أسعار السلع الأميركية نتيجة لضعف الدولار، وتسمح في الوقت ذاته باستدراج الدول النفطية للتفريط في احتياطياتها النفطية بدافع زيادة الدخل، مما يؤدي إلى استنزاف ثرواتها الوطنية، إلا أنه يزيد من الحوافز لتنفيذ مشروعات الطاقة البديلة التي قد تبدو أحياناً مكلفة للغاية. وبالنسبة للدول المنتجة للنفط فإن المكياج الذي نجم عن الثقة في عدم نضوب النفط، وتدفق عائدات "البترودولار" قد أخفى رؤيتها لحقبة "اللانفط"، وجعلها تتغاضي عن ارتفاع معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار، وارتفاع تكلفة المعيشة، واتجاه الدول لعمليات الإعمار والبناء، وانتشار "ثقافة الاستهلاك" والقروض العقارية، وازدهار أسواق الأسهم بصورة خداعية وقتية، وبروز المضاربة والجمع السريع للثروات، وانتفاء سمة الاستثمار والادخار عنها، الأمر الذي ينعكس سلباً على اقتصادات الدول النفطية، في الوقت الذي تتراجع فيه سياسات التنويع الاقتصادي، وتتدنى معدلات النمو الطبيعية، مما يثير كثيراً من المشكلات. أسعار النفط المنخفضة في الماضي أدت إلى انخفاض الاستثمارات في مجال الاستكشاف والتنقيب وتطوير الحقول، وهذا حدّ من قدرة العالم على تقديم معروض نفطي يواكب الطلب المتزايد بسرعة على النفط، والذي تجاوز حاجز 1000 برميل/ ثانية في عام 2006، أي نحو 86 مليون برميل يومياً. والأسعار المرتفعة أصبحت ضرورية لتشجيع الشركات على الاستثمار في مجال استكشاف حقول جديدة وتطوير الحقول القديمة، ومعظم عمليات الاستكشاف والتطوير تجري في مناطق تُعتبر أكثر خطورة، ويصعب الوصول إليها، وكميات النفط المكتشفة فيها أقل من الماضي. يجدر بالدول النفطية أن تتنبه لموقف "محور النفط" في الإدارة الأميركية، ودوره في صياغة استراتيجية الطاقة العالمية، وما تعكسه على الدول النفطية، وأن تعدَّ اقتصادها من الآن لزمن "اللانفط" بتجهيز بدائل تنموية أخرى تستطيع معها أن تواصل عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية للحفاظ على الرفاهية، فبعد أن ولى زمن النفط الرخيص، فإن جهود الدول الصناعية الكبرى لن تهدأ حتى يتم تدبير مصدر طاقة بديل ورخيص يوفر لها احتياجاتها، بعد أن تكون قد استنزفت الدول النفطية، وتجعلها تندم على عدم استعدادها لحقبة "اللانفط" وإنفاق عوائدها، خاصة أن معظم التقديرات تشير إلى أن ديمومة النفط واحتياطياته لن تصمد أمام الاستهلاك العالمي المتنامي أكثر من ستة عقود على أكثر تقدير.