ليس لأهم الأخبار الواردة من واشنطن هذين اليومين، أدنى صلة بالحملات الانتخابية الرئاسية التي لا تنتهي. وعلى رغم تجاهل وسائل الإعلام الأميركية لهذه الأخبار إلى حد كبير، فإنها غيرت وجه العالم كله تقريباً. ومصدر هذه الأخبار هو البنك الدولي، الذي أصدر تقريراً مؤخراً، جرى فيه تحديث المعلومات الإحصائية الخاصة بـ146 دولة. وجاء في التقرير أن الاقتصاد الصيني أصغر بكثير مما تعتقده بكين. بل أشارت لغة الإحصاءات والأرقام، إلى أنه يصغر بحجمه المفترض بحوالي 40 في المائة. وفيما اتضح، فإن حجم الاقتصاد الصيني ليس ما يعادل نحو 10 تريليونات دولار، وأنه على وشك اللحاق بالاقتصاد الأميركي كما كان يعتقد. بل الصحيح أن حجمه هو 6 تريليونات دولار فحسب، أي أقل من نسبة 50 في المئة من الاقتصاد الأميركي! وفي المستقبل القريب المنظور على الأقل، فإنه ليس للصين ما يكفي من المال لزيادة الإنفاق العسكري على دفاعاتها، إلى جانب توقع مواجهتها للكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، بمستوى أعمق مما كان يعتقد الكثير من الخبراء والمحللين. ولكن السؤال الذي لا يزال عالقاً وغامضاً: ما الذي حدث للأربع تريليونات دولار الغائبة عن آخر الإحصاءات عن الاقتصاد الصيني؟ من الناحية الإحصائية، وما إن يشرع الاقتصاديون في حساب إجمالي الناتج القومي لدولة ما، فإنهم يضيفون أسعار السلع والخدمات التي ينتجها اقتصاد الدولة المعينة، ليحصلوا على جملة تلك الأسعار، مقدّرةً عائداتها بالدولار الأميركي، أو اليورو بالنسبة لدول مثل فرنسا وألمانيا، أو باليوان، بالنسبة لدولة كالصين. أما لدى مقارنة إجمالي الناتج القومي لدولة ما بدولة أخرى، فإنهم يحولون إجمالي عائدات ناتج تلك الدولة إلى عملة الدولار. والسبيل الأسهل لحساب هذا، هو استخدام أسعار الصرف. وعليه فقد توصل البنك الدولي في إحصاءاته الأخيرة، إلى أن الصين أنتجت في عام 2006، ما تصل قيمته إلى 21 تريليون يوان من السلع والخدمات. وباستخدام أسعار الصرف السائدة في الأسواق المالية العالمية للعام المذكور، حيث يعادل الدولار الواحد 7.8 يوان صيني، فقد تبين أن إجمالي الناتج المحلي للعام نفسه هو 2.7 تريليون دولار. وبالطبع فإن هذا رقم ضئيل للغاية. وأحد الأسباب المفسرة له، أن الصين شأنها شأن الكثير من الدول، تتلاعب بعملتها الوطنية. أما السبب الثاني، فيتلخص في انخفاض أسعار السلع والمنتجات الواردة من الدول الأقل نمواً، مثل المكسيك والصين، قياساً إلى منتجاتها المثيلة في دول أخرى متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية. وللأخذ بمثل هذه الاعتبارات في الحسبان، يلجأ الاقتصاديون لمقارنة أسعار اقتصاد دولة ما، بأسعار دولة أخرى، ثم يتوصلون إلى تخمين أرقام معدلة لقيمة إجمالي الناتج المحلي لكل دولة، بناء على تماثل القوة الشرائية في كل واحدة منها. والفكرة هنا، هي أن أرقام إجمالي الناتج المحلي المعدلة لدولة ما، بناءً على تماثل القوة الشرائية، يوفر معياراً أكثر واقعية لقياس القوة الاقتصادية النسبية للدولة المعينة، وكذلك لقياس المستوى المعيشي للمواطنين، إذا ما قورن بأرقام إجمالي الناتج المحلي غير المعدلة. وبين الذي توصل إليه البنك الدولي من هذه المقارنات، انخفاض الفارق بين الأسعار المحلية في الصين، مقارنة بالأسعار المحلية لدول أخرى مثل الولايات المتحدة الأميركية، أكثر مما كان يعتقد سابقاً. وهكذا تبخّر فارق الـ4 تريليونات الذي كان محسوباً لصالح الاقتصاد الصيني في الهواء. أما العواقب والتداعيات السياسية لهذه الإحصاءات والحقائق الجديدة عن الاقتصاد الصيني، فيتوقع لها أن تُلمَس على نطاق شاسع وممتد. وأولى هذه العواقب أن الاقتصاد الأميركي سيظل متصدراً مكانته بصفته أكبر اقتصاد عالمي على مدى ليس بالقريب في المستقبل. أما ثانيتهما، فتتلخص في تبخّر المخاوف من أن تنافس الصين الولايات المتحدة في القيادة السياسية والاقتصادية للعالم. فوفقاً للإحصاءات الاقتصادية السابقة، كانت تشير التقديرات إلى تجاوز الاقتصاد الصيني للاقتصاد الأميركي بحلول عام 2012. وهذا ما لم يعد وارداً حدوثه، حسب الحقائق التي كشفت عنها أحدث الإحصاءات. وفي المقابل يبدو توازن القوى الآسيوية أكثر أمناً مما كنا نعتقد. ففي الوقت الذي لم يتأثر فيه الاقتصاد الياباني بالمراجعات الإحصائية التي أجراها البنك الدولي، يلاحظ أن الاقتصاد الصيني قد انكمش بنسبة 40 في المائة عما كان عليه اعتقاد الكثيرين، وخاصة في العاصمة بكين نفسها. وعلى رغم انكماش الاقتصاد الهندي هو الآخر بنسبة 40 في المائة -مثلما حدث للاقتصاد الصيني- لا يزال في وسع الولايات المتحدة الأميركية وحليفتيها الهند واليابان، الحفاظ على توازن القوى العسكرية الآسيوية، وتغليب كفتيهما على كفة القوة العسكرية للصين، لمدى بعيد في المستقبل. ومن الوجوه المأساوية لهذه الحقائق الجديدة عن اقتصادات شتى الدول، أن مليارات البشر يعانون أوضاع فقر أشد وأكثر لؤماً مما كنا نعتقد. ذلك أن الانكماش الاقتصادي لم يقتصر على الصين والهند وحدهما، إذا ما قارنا النسب المشار إليها سابقاً، بانكماش اقتصادات دول أفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 25 في المئة عما كانت عليه في الإحصاءات الاقتصادية السابقة. وأحد أهم التداعيات المصاحبة لهذه الحقائق، ترجيح فشل أهداف برنامج الأمم المتحدة للألفية الجديدة، وهو البرنامج الإنمائي الهادف إلى الحد من معدلات الفقر العالمي بحلول عام 2015. والتر راسل ميد ــــــــــــ زميل رئيسي في "مجلس العلاقات الخارجية" الأميركي ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"