بعد أكثر من محاولة تمكن الإرهاب من النيل من "شهيدة باكستان"، وفجع العالم باغتيال زعيمة مرموقة قدمت المرأة المسلمة إلى العالم على أنها قادرة على البذل والعطاء والتضحية، ولو كان ذلك بآخر قطرة من دمها في سبيل تحقيق مبادئها وطموحاتها وخدمة بلادها. "بوتو" لم تكن امرأة عادية، لكي يمر موتها دون أن يثير في النفس تعاسة تجعل المرء يتساءل عن مصير الأمة الإسلامية وإلى أين تسير، خاصة إذا كان قتل النساء بدماء باردة أصبح شيئاً عادياً تحت شعارات شتي هي في جوهرها خرقاء. إنني هنا لا أريد أن أكون عاطفياً أكثر مما يجب، ولكن إذا كانت لعبة السياسة قد وصلت لدى البعض في العالم الإسلامي لكي تعني الابتعاد كلية عن الأخلاق، فإن ذلك يعني أيضاً ابتعاداً كاملاً عن أخلاق الإسلام الذي يُحرم قتل النفس البريئة إلا بالحق، فما بالك بقتل المرأة ولأسباب سياسية. قضية باكستان الحالية ليست مختزلة في قتل "بينظير" وإخراجها من الساحة السياسية، بل هي أعمق من ذلك وتتعلق بوجود الدولة الوطنية الباكستانية ذاتها، وباستمراريتها وسلامتها المستقبلية، فإن كان الباكستانيون يعون ذلك، فإن عليهم أن يقفوا ضد كل ما يجري ويصلحوه أياً كانت الطريقة وأياً كان الثمن، وإن كانوا ليسوا واعين لما ينتظر بلادهم من مستقبل مظلم، فإن تلك مصيبة كبرى لا يعلم أحد إلى أين ستأخذهم إن لم تتوقف. المشهد الباكستاني كما أراه الآن شبيه جداً بالسفينة التي تواجهها عاصفة هوجاء، ولكن لا يوجد على متنها ربان ماهر أو "قائد أعظم" من مستوى محمد علي جناح، يستطيع أن يقودها إلى بر الأمان. في جوهرها، تتلخص مشكلة باكستان في الدمج السياسي والقيادة التي تحقق ذلك، فباكستان لا تبدو إلى الآن قادرة على تحقيق الدمج السياسي بين كافة فئات شعبها. الدمج السياسي لأية أمة يتم عن طريق ظهور قيادة قوية وقادرة تتبنى فكراً، وحركة شعبية لها أهداف وطنية محددة يقتنع بها الجميع. القيادة لا يمكن أن تكون عظيمة ما لم يكن لديها هدف وطني عظيم، ولا تستطيع أن تكسب تأييد الجماهير ما لم تدشن مشاريع وطنية واضحة تصب في نهاية المطاف في صالح الجماهير. وباكستان تفتقر إلى الآن إلى البوصلة التي تهديها سواء السبيل، فمنذ مرحلة ما بعد الاستقلال لم يتواجد لديها برنامج وطني واضح تقتنع به الأمة، ولا هدف وطني واضح يراد تحقيقه. الأهداف الوطنية ليس بالضرورة أن تكون واسعة جداً، بل يجب أن تكون محددة لكي تنهض وتحظى بتأييد الجماهير، والأهداف الوطنية يتم تجديدها من وقت إلى آخر، عن طريق الاحتياجات الوطنية، والاحتياجات الوطنية الأكثر إلحاحاً تخدم بأحسن الأهداف الوطنية التي تقوي الوحدة الوطنية. باكستان تواجه مشكلة قاتلة إن لم يتم تجاوزها، فإن الدولة فيها ستنهار، بمعنى أن ما يحدث حالياً يهدد الوجود الأساسي للأمة. لذلك فإن فراغاً سياسياً يتواجد على الساحة السياسية، ذلك الفراغ أوجد البيئة المناسبة للقادة الإقليميين الذين يتصف العديدون منهم بالأنانية والرغبة في تحقيق المصالح والأمجاد الشخصية، ما أوجد متنفساً للعواطف والأحاسيس الضيقة لكي تؤسس لنفسها مواطئ قدم وبؤراً استشرت في الجسد الباكستاني كالنار في الهشيم. وبالإضافة إلى ذلك توجد عوامل أخرى أهمها العديد من السياسات والمواقف الخاطئة التي انتهجتها الحكومات الانقلابية المتعاقبة، تم استغلالها من قبل القادة السياسيين الإقليميين، مما زاد من تفاقم مشاكل الجسد الباكستاني. ولو أن الجماهير الباكستانية تواجدت لها القيادة الحكيمة التي تعبئها وتحركها كأمة متماسكة في الاتجاه الصحيح لتحقيق برامج وطنية بناءة، واستغلت طاقاتها من أجل البناء الوطني، لما كان للنظرات الضيقة أن تتحول إلى تهديد حقيقي ينذر بخطر دمار الأمة. والآن وفي هذه اللحظات المريرة التي تمر بها باكستان، فإن الدمج الوطني الصحيح لا يمكن تحقيقه دون خلق نظرة وطنية حديثة، والشعور الوطني لا يمكن خلقه دون وجود قيادة وطنية ذات قدرات عالية. وللأسف فإن كلا الأمرين لا يلوحان في الأفق الباكستاني، ووجودهما يحتاج إلى إجماع الأمة واقتناعها بأنها في أمس الحاجة إليهما. وبدوره فإن هذا يحتاج إلى من يوصله إلى الشعب بطريقة جديدة تبتعد عن كل ما حدث منذ أن بدأت الأزمة الحالية. إن السياسيين الحاليين مشغولون بالمناورات السياسية وتشكيل الحكومات من عدمه، وبإجراء الانتخابات من عدمه، وبذلك فإنهم فاقدو الاتصال بأبناء شعبهم، لأن ذلك ليس هو ما يشغل بال الجماهير الغفيرة المعدمة. إن من يكتشف ما تفكر فيه الجماهير الباكستانية التي تعيش أغلبيتها تحت مستوى خط الفقر وترزح تحت نير الحاجة والجهل والمرض وكافة عناصر التخلف الأخرى، ويعمل من أجل تغيير ذلك الواقع إلى واقع جديد، هو الذي سيتمكن من قيادة باكستان المستقبل.