على نقيض ما ذهب إليه المفكر الأميركي المحافظ صمويل هنتينغتون حين "بشر" قبل سنوات بنظرية "صراع الحضارات" المثيرة للجدل، يأتي كتاب: "موعد الحضارات" لإيمانويل تود ويوسف كرباج، ليبشر بأن ذلك الصراع لن يقع أبداً، معززين طرحهما، وهما المفكران وعالما الديمغرافيا الكبيران، بأدلة علمية استقياها من واقع التحولات الحاصلة في طبيعة وتوجهات مختلف الحضارات والثقافات والبنى الاجتماعية في الشرق والغرب معاً. ويكتسي هذا الكتاب أهمية بالغة ووجاهة استثنائية من مصداقية مؤلفيه الأكاديمية العريقة، تماماً كما يكتسيهما من تماسك أطروحاته، وانبنائها على لغة التحليل الكمي والأرقام الموثقة، لا جعجعة الأيديولوجيا المحافظة ورطانة خطاب الأحكام المسبقة، اللتين ارتبطتا في أذهان كثيرين بـ"المحافظين الجدد" وجميع من أخذ منهم هنتينغتون أصل ومادة أطروحته سيئة السمعة تلك. ذلك أن المفكر الفرنسي الكبير "إيمانويل تود" الذي اشتهر أصلاً بكتابيه ذائعي الصيت: "ما بعد الإمبراطورية... تفكك النظام الأميركي" و"الوهم الاقتصادي"، والذي لقبته صحيفة لوموند ذات مرة بـ"متنبئ السياسات"، كان هو أول من تحدث عن قرب تفكك المنظومة السوفييتية، في كتابه "السقوط النهائي" سنة 1976، كما أن معظم مؤلفاته تتميز بالأصالة والتماسك المنهجي، وقد اشتهر على نحو خاص بالاشتغال على النظام القرابي الأسري وإسقاطاته الاجتماعية والسياسية. كما أنه أحد أوائل من حذروا مما سيسمى لاحقاً في فرنسا بـ"الشرخ الاجتماعي"، الذي تحول منذ حملة الرئيس السابق جاك شيراك منتصف التسعينيات، إلى كلمة سر محركة، بل حاكمة، لكل البرامج الانتخابية في فرنسا. لن يرى صراع الحضارات إذن النور، بل على العكس من ذلك فثمة حراك واسع باتجاه التقارب والتلاقي الآن على صعيد كوني. فالمجتمعات الإسلامية التي يضعها هنتينغتون في مواجهة محتومة مع الغرب، تشهد اليوم في الواقع تحولات كبيرة ستنتهي بها، بطرق مختلفة، وفي القريب العاجل، إلى تبني منظومة قيمية مشابهة تماماً للمنظومة القيمية الغربية. وكلمة السر في هذا التحول الوشيك هي التحولات الديمغرافية الواسعة التي تمر بها مجتمعات عالم الإسلام، وإن كان التمييز داخل هذه المجتمعات ذاتها، أمراً لازماً، وذلك لشدة الاختلافات بين خصائصها الديمغرافية والثقافية، وهو ما يعني استطراداً، تفاوتاً في الدرجة والنوع، لجهة مدى استعدادها للتحديث والتغيير الاجتماعي. فحالة بلد كاليمن مثلاً حيث يصل معدل الخصوبة إلى 6 أطفال للمرأة، تختلف تماماً عن حالة بلد كتونس أو إيران لا تتعدى فيه تلك النسبة 2 للمرأة، وهي نفس النسبة في مجتمع أوروبي متقدم كفرنسا. ويمتد هذا الاختلاف الهيكلي الواسع بين المجتمعات الإسلامية أيضاً إلى الأنماط القرابية والأسرية بالنظر إلى اختلاف الثقافات الاجتماعية السابقة على الإسلام كدين، ففي العالم العربي مثلاً يسود على أوسع نطاق نمط الأسرة المكونة من (زوج وزوجة واحدة فقط)، وتغلب صلة القرابة على تكوين الأسر، ما يعني ديمومتها النسبية واستقرارها. وفي أفريقيا جنوب الصحراء يسود تعدد الزوجات على أوسع نطاق، أما في مجتمعات شرق آسيا مثل إندونيسيا وماليزيا فمكانة المرأة تبدو أكبر بكثير، حيث يفضل الناس مواليد "بنات" على الذكور، وحيث تزيد نسبهن كثيراً في التعليم العالي، وتختفي تماماً ممارسات الإجهاض والإقصاء ذات الصلة بـ"الجندر"، كما هو الحال في الهند والصين. ويرى إيمانويل تود ويوسف كرباج أن أفضل طريقة لمقاربة التحولات والنجاحات التنموية والاجتماعية، عموماً، ليست بمقارنة معدلات الدخل الفردي إلى الناتج القومي، وإنما بالنظر إلى نسب الخصوبة السكانية، ونسب تعليم النساء، ومدى تأثير الخلفية الدينية في المجال العام للمجتمع. والتبدلات الجارية الآن على مستوى كل واحد من هذه المتغيرات الثلاثة، تشير إلى أن الفروق البنيوية والقيمية القائمة اليوم بين المجتمعات الإسلامية والغربية ستختفي في موعد قريب، وربما أقرب بكثير مما يتصور كثيرون. ولئن كانت الظاهرة الغالبة في المجتمعات الإسلامية الآن هي تقلص مطرد في نسب الخصوبة والزيادة السكانية، حيث كانت تصل إلى 6.8 طفل للمرأة سنة 1975، وأصبحت 3.7 في سنة 2005، فإن هذا المؤشر نفسه سجل تاريخياً في المجتمعات الغربية، وبطريقة عميقة الدلالة، عندما كانت في مراحلها الانتقالية الكبرى تجاه التحديث، وقد استغرقت عملية تحجيم الخصوبة هذه في منطقة حوض باريس مثلاً قرابة عشرين سنة سابقة على الثورة الفرنسية. وتتميز مرحلة الانتقال هذه عادة – في أي مجتمع- باضطرابات اجتماعية واسعة وجموح النزعات الدينية النكوصية الرافضة للتغير، وهو ما نرى بعض تجلياته الآن في العالم الإسلامي، ولكنها "مقاومة" يائسة لا يرى الباحثان أنها ستعيق طريق التحول الشامل. وعلى صعيد تآكل الخصوبة السكانية في المجتمعات الإسلامية تشكل مجتمعات شبه القارة الهندية الإسلامية استثناءً دالاً في هذا الصدد حيث تحافظ على معدلات خصوبة مرتفعة للغاية، مقارنة بالمجتمعات الهندوسية المجاورة لها، وهو ما يعني -حسب المؤلفين- أن مسلمي شبه القارة -الذين يصل عددهم الآن إلى 450 مليون نسمة- سيصبحون أغلبية في سنة 2050 إذا استمرت وتيرة الخصوبة الحالية. ومجمل القول إن ما ينتهي إليه كتاب "تود" وكرباج، هو أن مفتاح فهم ما يجري في العالم الإسلامي من تجاذبات ونزعات ماضوية أو تحديثية وصراعات قاتمة متلاطمة، يكمن في استشراف مسار التحولات السكانية الديمغرافية والثقافية وصولاً إلى التغير الاجتماعي الثقافي المحتوم، الذي سيجعلها تشترك مع المجتمعات الأوروبية في معظم الخصائص، تماماً كما حدث للمجتمع الياباني في وقت ما من القرن العشرين. وعندها سيكون ثمة ما يشبه المشتركات والمعايير الكونية الموحِّدة، وتلتقي الحضارات والثقافات، وتطوى كل أشكال التعارض والتناقض فيما بينها، وتحال الى رفوف الذاكرة. حسن ولد المختار ــــــــــــــ الكتاب: موعد الحضارات المؤلفان: إيمانويل تود ويوسف كرباج الناشر: سوي تاريخ النشر: 2007