ترجع المرة الأولى التي كانت فيها سياسة رئيس أميركي ما متناقضة مع الوعود التي قطعها على نفسه إلى العام 1800، وقتها استند برنامج "توماس جيفرسون" الى الدعوة إلى الحد من السلطات التنفيذية للحكومة الفيدرالية، واعتماد سياسة التقشف المالي الرامية إلى خفض الديون المحلية، فضلاً عن التفسير الصارم للدستور. لكن الفرصة التي أتيحت له لاحقاً لشراء ولاية لويزيانا في العام 1803 ضربت بالتعهدات الجيفرسونية عرض الحائط. وكما تكشَّف في النهاية، يبدو أنه لاكتساب إمبراطورية لا بد للرئيس أن يصبح إمبريالياً، وهو ما أقدم عليه "جيفرسون"، رغم تحفظه في البداية. والواقع أن هذا النمط الإشكالي في العلاقة بين الوعود والحقائق تكرر في العديد من المناسبات الأخرى على مدار القرن العشرين. فقد تعهد "وودرو ويلسون" في العام 1912 بإبقاء الولايات المتحدة بعيداً عن الحرب العالمية الأولى، لكنه سرعان ما أخذ البلاد إلى الحرب عام 1917؛ وبالمثل أقسم "ليندون جونسون" أنه لن يجر الشباب الأميركي إلى الحرب في فيتنام، لكنه ناقض نفسه في العام 1965. أما "رونالد ريجان"، فقد نعت الاتحاد السوفييتي "بإمبراطورية الشر" فقط ليفتح باب المفاوضات معه حول أكبر خفض للترسانة النووية شهده العالم. ومع أن القرن الحادي والعشرين مازال في بدايته، إلا أن النمط الإشكالي ذاته بدأ يفرض نفسه. فقد ركز الرئيس "بوش" في حملته الانتخابية على برنامج "محافظ" داخلياً ومعارض لدور الشرطي الأميركي في الخارج، لكن أحداث 11 سبتمبر دفعته إلى تبني سياسة وقائية تميل إلى استخدام القوة في الخارج بشكل أحادي. وإذا ما نظرنا عن قرب إلى هذا النمط، نخرج بخلاصة مفادها أن ما يقوله المرشحون في الانتخابات الرئاسية لا يحمل في طياته أية قوة استشرافية بشأن ما سيقوم به الرئيس لاحقاً. ولو ذهبنا في التحليل أكثر من ذلك لحق لنا القول إن سياسات الرؤساء غالباً ما تناقض وعود الحملات الانتخابية. وإذا طبقنا هذا المنطق على الحملة الانتخابية الحالية، فإنه يتعين على الناخبين الذين يريدون سحب القوات الأميركية من العراق الابتعاد عن المرشحين الديمقراطيين (الذين يعدون بذلك)، وأن يصوتوا على "جون ماكين" المرشح "الجمهوري" (الذي يطالب ببقاء القوات في العراق). وبرغم ما ينطوي عليه هذا المنطق من غرابة، فإن أسباب تواجده متجذرة في الحقائق السياسية التي ترجع إلى عهد انتخابات "جيفرسون". السبب الأول أن الحملات الانتخابية غارقة في الأساليب الدعائية ومساعي إبراز المكانة، بحيث يصبح هم المرشحين الابتعاد عن المواقف السياسة للخصوم والمعارضين مع تجاهل شبه تام للقضايا الحقيقية. لذا تبقى عملية اختيار الرئيس شبيهة باختيار عداء المسافات البعيدة من بين عدائي المائة متر. والنتيجة أنه من الصعب التعرف على المرشح القادر على الانتقال من دور القائد للحملة الانتخابية بكل ما تتطلبه من دعاية ووعود إلى دور الرئيس الفعلي الذي يفي بتعهداته. ولا يحضرني في هذا السياق سوى رئيسين أميركيين هما "فرانكلين روزفيلت" و"أبرهام "لينكولن" اللذين نجحا في الانتقال من مرحلة المرشح إلى مرحلة الرئيس. أما السبب الثاني وراء المفارقة الصارخة بين البرامج الانتخابية والسياسات الرئاسية فيكمن في الأحداث العالمية غير المتوقعة. فحتى القضايا السائدة التي تهيمن على حملة انتخابية ما قد لا تتطابق بالضرورة مع تلك التي سيواجهها الرؤساء وهم في البيت الأبيض. فالرئيس "جيفرسون" لم يخطر بباله أن يعرض "نابليون" أراضي لويزيانا للبيع مقابل مبلغ زهيد، كما أن "ويلسون" لم يكن قادراً على التنبؤ بشن الغواصات الألمانية حربها على السفن الأميركية، ولا كان بمقدور "روزفلت" رؤية ما سيقع ذات يوم مؤسف في "بيرل هاربر". وأخيرا لم يكن باستطاعة "بوش" التنبؤ بهجمات 11 سبتمبر. وإذا كان الهدف من الحملات الانتخابية الطويلة والممتدة التي تشهدها أميركا هو كشف شخصية المرشحين للناخبين وإتاحة الفرصة للتعرف عليهم، إلا أنه وبالاستناد إلى التاريخ تبقى عملية انتخاب رئيس أميركي بمثابة رهان على المجهول. ـــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"