يرفض "المحافظون الجدد" في الولايات المتحدة، في أدبياتهم، ما يسمونه "الهندسة الاجتماعية"، فمنذ منتصف القرن العشرين، كانت طروحاتهم، تدور حول أفكار منها أنّ طبيعة النظام السياسي في الدول المختلفة، وديمقراطيته، واحترامه حقوق الإنسان، لها أثر في السياسة الخارجية لتلك الدول، وأنّه يمكن استخدام القوة الأميركية، لأسباب "أخلاقية" مثل تغيير الأنظمة الديكتاتورية. ولكن "المحافظين الجدد"، رفضوا فكرة "الهندسة الاجتماعية"، أي تدخل الأنظمة في سياسات اجتماعية وإعلامية وتربوية وقانونية، لتشكيل المجتمع، وهو ما قد يبدو للوهلة الأولى تناقضاً مع فكرة أهمية النظام السياسي. ولكنه رفض جاء في سياق تاريخي، بدأ برفض سياسات ستالين للهندسة الاجتماعية في الاتحاد السوفييتي، واعتبروا هذه الهندسة نوعاً من التلاعب بالمجتمعات، وضد حرية الفرد. ويبرر البعض الفشل الأميركي في إدارة مرحلة "ما بعد الحرب"، في أفغانستان والعراق، بهذا "الجهل" للهندسة الاجتماعية، حتى بمعانيها الإيجابية، فيقول فرانسيس فوكوياما "هناك الكثير من الأدبيات حول التغيير الديمقراطي وبناء المؤسسات الديمقراطية، لكن المحافظين الجدد بقوا خارج هذا النقاش". وواقع الأمر أنّ السبب الأهم للفشل، كان الغرور بالقوة الأميركية المسلحة، والقناعة بأنّ سقوط الأنظمة المعادية سيؤدي تلقائياً لقيام أنظمة حليفة ذات بناء اجتماعي- سياسي وفق مقاييس أميركية، وأنّه لا داعي لخطط مفصلة لمرحلة ما بعد الحرب. وفي حالة باكستان، يبدو الإخفاق الأميركي مضاعفاً، فباكستان خضعت بالفعل في الثمانينيات والتسعينيات، لـ"هندسة اجتماعية"، برعاية وتخطيط أميركيين، فقد قامت السياسة الأميركية آنذاك، على التحالف مع حكومات باكستانية وحكومات إسلامية، لتعبئة الشارع الباكستاني، ضد السوفييت، وتشجيع نشر "الفكر الجهادي"، وتسهيل نشوء مؤسسات الهندسة الاجتماعية، مثل تأسيس شبكة المدارس الإسلامية (10- 13 ألف مدرسة الآن)، كانت، مرتبطة بالاستخبارات الباكستانية، وغير الباكستانية، وتسهيل نشوء شبكات التمويل والجمعيات الخيرية، وسهلوا بروز بعض فصائل "الجهاد" الأفغاني، وبالتالي "الظاهرة الطالبانية". وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، أهملت أميركا، معالجة مجتمع "ما بعد الجهاد"، تماماً كما تم الاستعجال عام 2001/ 2002، للانتهاء من مهمة أفغانستان، بهدف الإسراع نحو العراق، (لاعتبارات لا يتسع المجال لنقاشها هنا)، وبالتالي تم ترك المهمة للنظام العسكري بقيادة الرئيس برويز مشرف، ليحارب الإرهاب هناك، دون خطط محددة أو متابعة لمدى حدوث تنمية سياسية واجتماعية. منذ منتصف العام الماضي، 2007، تنبهت دوائر السياسة الأميركية، لخطورة ما يحدث في باكستان، فقد اتضح أنّ "طالبان" و"القاعدة" يتجذران، وينموان. وأنّ البيئة الاجتماعية الحاضنة للإرهاب تتعمق؛ فنسبة الأميّة تصل إلى 75% في منطقة القبائل الحدودية مع أفغانستان، وتصل 97% بين نساء تلك المناطق، ونسبة التعليم الإجمالية في باكستان، لمن هو فوق الخامسة عشرة، لا تصل 50%. وعلى الرغم من المساعدات الأميركية، فإنّ نسبة إنفاق باكستان على التعليم لا تتعدى 1.7% من الدخل القومي، وزاد في السنوات الأخيرة معدل إنتاج المخدرات وتجارتها، كما تتعزز سلطة القبائل الحدودية المنفصلة عن الدولة. وبغض النظر هل كان "المحافظون الجدد" غير جادين، أم كانوا غير قادرين، على رعاية تحقيق الإصلاح والديمقراطية، فإنّ هناك تغيراً كبيراً في السياسة الأميركية حالياً، بعد أن تراجعت قوة "المحافظين الجدد" في الإدارة الأميركية، وصعدت "الواقعية" مجدداً بفضل تزايد قوة كوندوليزا رايس، وهذا يتمثل في سياسة براجماتية صرفة، تتجسد في التحالف مع قوى تقليدية، (في أفغانستان وباكستان والعراق)، سواء أكانت طائفية، وقبلية، أم نخباً عسكرية، أو حتى تقديم مبالغ مالية (كما بأفغانستان)، أو تقديم إشارات للاستعداد للتفاهم مع دول "محور الشر"، مقابل تسهيل الخروج الأميركي من المأزق العسكري الراهن في العراق وأفغانستان، ومقابل هزيمة منظمات الإرهاب، وأهمها "القاعدة". ورغم أهمية هزيمة هذه القوى الأخيرة، لمصلحة شعوب ودول المنطقة، فإنّ الوضع الراهن يعني أنّ واشنطن انقلبت مجدداً لتدخل الآن حليفاً مع قوى كانت تقليدياً ضد الإصلاح، وضد التنمية السياسية على أساس حقوق الموطنة المتساوية. من هنا نجد السياسة الأميركية الحالية في باكستان، تركز على تثبيت النظام القائم، وصياغة تحالفات تبقيه قائماً بعد مقتل بينظير بوتو، دون حديث كثير عن الإصلاح أو التنمية السياسية.