مع اعتقال داعية اللاعنف البورمية "أوانج ساسو كايا" بعد الإقامة الجبرية لأربع سنين (وهذا بحد ذاته اعتقال مصغر)، تذكرت ليلى سعيد التي كانت تواجه رجال الأمن من دون وجل، وهي تجادلهم في موضوع عبود الذي اعتقل ظلماً لأنه فتح الإنترنت، فأرسل مقالتين مشبوهتين لصديقين، فكلفه هذا سجن سنتين ونصف مرحوماً، بدل ثلاث سنين عدداً! كانت تقول رحمة الله عليها، وها قد مر على موتها سنتان! يجب أن نخوض معارك لا نخاف فيها، فأن نعتقل من أجل أفكارنا لا ضير، لكن يجب أن لا نعتقل لأننا قمنا بتفجير أو قتل أو ما شابهه. مع الخريف الذي تتساقط فيه الأوراق أتأمل المسألة الوجودية برمتها، ولقد بكينا أنا وجودت سعيد عليها، فوق نهر السين فاختلطت مياهه بأطهر ماء، من دموع، في ذكرى حبيب ومنزل... أحياناً أقول: يا تراب ماذا أخذت وكم، من الوجوه الجميلة، والحسن الرقة، والرأي الوثيق، والحكمة البالغة.. ثم أتذكر قول الفيلسوف شوبنهاور: "الطبيعة تسحقنا كأفراد ولا ترحم ولا تأبه، بينما تحافظ على النوع بعناد وإصرار..". لكن بعد مائة عام دعنا نبكي كما بكى "كزركسيس" في حملة مضيق الهليسبونت عند الدردنيل، يقول لعمه "أرطبانوس" الذي تعجب من ضخامة حملة قوامها مليون جندي، ومن دموع الملك الجبار! إنها المسألة الوجودية، أو الورطة الوجودية كما يقول سارتر... يقول كزركسيس: بعد مائة عام لن يبق أحد من هؤلاء الجنود الشباب! نعم بعد مائة عام من الآن، لن نبق، ولن تبق بناتنا، ولن يبق أحفادنا إلا في أندر النادر... بعد مائة عام ستزول من العالم ثلاثة أجيال كاملة؛ "كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين، ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز...". أتذكر الفيلسوف برتراند راسل يتأمل المسألة الوجودية بيأس، تلك العبقرية التي تلمع في رابعة النهار، كما أتذكر ليلى سعيد، تلك الحكمة وذلك الاتزان... يتساءل راسل: هل يمكن لأي فلسفة أن تضع أسسها إلا في عالم القنوط المقيم؟ أتذكر أيضاً نابليون، وتلك الحماقة المجلجلة حين طلق جوزفين... من أجل وريث العرش. لكن جوزفين كانت قصراً لا ينال منه الزمن، في قلب من هزم العروش.. فكانت آخر كلمة نطقها في جزيرة هيلانه: جوزفين... جوزفين! لم تكن لليلى أغراض وحلي مثل باقي النساء، بل أفكار وكتب، حتى في الآخرة كانت أمنيتها كتابا ومكتبة، وشاشة عرض ثلاثية الأبعاد تفك أسرار التاريخ المغرقة في السرية... كانت جوزفين صرحاً ممرداً من قوارير... وكذلك كانت ليلى سعيد وردة الجولان، قمة اللطف والأنوثة واللاعنف ونموذج المرأة المتقدم عن الرجل... لقد أبقت لي الذكريات التي اجترها كلما شعرت بألم... ثم أقول: هل أطلب من الرب مسحها فأرتاح؟ أم أبقى على الألم حتى نهاية الدهر... إنها ذكريات المعنى فلتبق؛ حتى يبق لي معنى... لقد كانت بوصلتي وخارطتي ونور عيني في عالم الظلمات؛ فأنا اليوم تائه فاقد الاتزان في عالم الأحزان. كنت بأمس الحاجة لها في منعطفي الجديد، فأنا أعيش على الذكريات، وأتذكر المسيح وبيلاطس حين كان يسأله: أأنت ملك اليهود؟ أجاب المسيح أنت تقول ذلك... ثم يعقب: مملكتي ليست من هذا العالم. ومملكة ليلى ليست اليوم من هذا العالم. ونحن من نعيش عالم المعنى، يجب أن نودع عالم المادة المتلاشي المتفاني إلى مملكة أخرى، حيث لا حزن ولا نصب، ولا لغو ولا تأثيم... حيث السلام في دار السلام، تحيتهم يوم يلقونه سلام، وأعد لهم أجراً كريماً... أرجو من ربي أن لا يحرمني من رؤيتها؛ فهي اليوم من عالم المثل في بيت من قصب، وأنا من عالم الصخب... هي من عالم السلام والنور والحبور، وأنا من عالم يموج بالظلمات والعذابات!