إسرائيل قلقة من العلاقة بين مصر وحركة "حماس". صحيفة "هآرتس" كشفت، في تقرير نشرته يوم 23 أكتوبر الجاري، أن الحكومة والقيادة العسكرية الإسرائيليتين أبلغتا القاهرة قلقهما من تحسن علاقاتها مع "حماس". وزيرة الخارجية الأميركية عبرت، بدورها، عن قلق مشابه. وقالت أمام لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس يوم 25 أكتوبر إنها أبلغت المصريين قلق واشنطن من أنهم لا يبذلون جهداً كافيا لمنع تهريب الأسلحة إلى غزة. ولا تهم الإسرائيليين والأميركيين، بطبيعة الحال، المعضلة التي تواجه مصر من جراء الوضع الحالي في غزة، والتي تضعها في موقف شديد الصعوبة بين ضغوطهم من ناحية ومتطلبات أمنها القومي والتي تفرض عليها مد الجسور مع "حماس" من ناحية أخرى. فليس في مصلحة مصر خلق أزمة مع القوة الفلسطينية التي تسيطر الآن على غزة، رغم عدم اطمئنانها إلى هذا الجوار الذي أصبح قلقاً. لذلك حرصت القاهرة على ألاّ تتأثر علاقاتها مع "حماس" بالصدام المتصاعد منذ شهور بين الدولة المصرية و"الإخوان" الذين يمثلون الجماعة الأم بالنسبة لهذه الحركة. فقد اختارت مصر، بعد سنوات من التجربة والخطأ في العلاقة مع حركة "حماس"، أن تفصل بين سياستها تجاهها وموقفها إزاء الجماعة الأم. غير أن هذا التوجه الصحيح في التعامل مع حركة "حماس" من حيث المبدأ، لا يعني بالضرورة أن السياسة المصرية تجاهها، وسياستها العامة إزاء القطاع، كانت صائبة طوال الوقت. فعلى سبيل المثال، لم تستطع مصر تطوير رؤية متكاملة لسياستها تجاه قضية فلسطين تتجاوز السعي إلى تسوية سلمية مع إسرائيل. فقد طغى الهدف، وهو التسوية، على السياسة التي يصح إتباعها للوصول إليه، وللتعامل مع الوضع في حال فشل تحقيقه، وللبدائل الممكنة إذا استحال إنجازه. فقد سعت مصر إلى السيناريو الأفضل من وجهة نظرها، أكثر مما حاولت تجنب السيناريو الأسوأ من وجهة نظر الجميع. وربما لم تنتبه إلى أن لهذا السيناريو الأسوأ مقدمات جدية، إلا في وقت متأخر عندما قرر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريل شارون الانسحاب من القطاع بشكل منفرد. وقد أدار شارون هذا الانسحاب بطريقة لا تحقق فقط أكبر مقدار من الأمن لشعبه، بل تجعل مستقبل القطاع عالقاً في الهواء. فلا هو مستقل ولا هو خاضع لاحتلال عسكري مباشر. وكان هذا الوضع بما ينطوي عليه من مشكلات ينعكس، أول ما ينعكس، على مصر. وكانت ثمة حينئذ ثلاثة تهديدات رئيسية لمصر. لكن يبدو أن مصر ركزت على اثنين منها أكثر مما اهتمت بالثالث الذي أصبح هو التهديد الرئيسي بعد "انفصال" قطاع غزة عن الضفة في 14 يونيو الماضي. كان التهديد الأول ناتجاً عن تحويل قطاع غزة إلى سجن كبير لأهله على نحو يجعل حدوده مع مصر هي المتنفس الوحيد لهم. وكان هذا هو التهديد الأدنى، لكن مصر أعطته أهمية قصوى. وكان التهديد الثاني ناتجاً عن نجاح ذراع عسكري أو آخر لهذا الفصيل الفلسطيني أو ذاك في تهريب أسلحة وذخائر عبر الحدود مع مصر. وهذا تهديد مهم لأنه يمكن أن يكون باباً جديداً لضغوط أميركية على مصر. أما التهديد الثالث الذي كان يبدو بعيدا يوم انسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، ثم تحقق بسرعة قياسية لم تتوقعها مصر ولا غيرها، فهو سيطرة "حماس" على القطاع في حال تصاعد صراعها مع "فتح". كان هذا الافتراض ضعيفاً واحتماله محدودا، وقت الانسحاب العسكري الإسرائيلي. لذلك لم تستعد مصر بشكل كاف للتعامل معه حال تحققه. فقد ركز التحرك المصري بعد الانسحاب الإسرائيلي على إقناع الفصائل الفلسطينية بمواصلة التهدئة التي اتفقت عليها في الجولة الأخيرة لحوارها في القاهرة مطلع 2005. وتوازى معه تحرك لإقناع إسرائيل بالحد من اعتداءاتها. غير أن هذا التحرك المصري لم يستطع وقف الديناميكية السريعة للصراع على قطاع غزة. والأرجح أن مصر لم تدرك في الوقت المناسب أنه أصبح مرتبطاً بالصراع الأكبر على المنطقة، لأن الفريق الأقوى في "حماس"، بقيادة محمود الزهار وسعيد صيام والذي يميل إليه الجناح العسكري بات، يؤمن بأن الفشل الأميركي في العراق والإسرائيلي في لبنان، يوفر فرصة تاريخية لانتصار سياسة الممانعة، وبالتالي ازداد ارتباط هذا الفريق بمحور التشدد الإيراني –السوري. كما أن مجموعة "فتح" الأقوى في غزة بقيادة محمد دحلان، والتي تعتمد على الأجهزة الأمنية، كانت قد وصلت إلى اقتناع بأن لا مستقبل لتسوية تحل قضية فلسطين تحت الرعاية الأميركية في إطار رؤية الرئيس بوش من دون إلحاق هزيمة بحركة "حماس". ولذلك جاء التصاعد السريع للصراع على غزة، بأسرع مما توقعته مصر ومما كان في استطاعتها أن تتعامل معه. وهذا يفسر ما اعتبره كثير من المراقبين تغييراً سريعاً في موقفها الذي بدأ بإعلان إدانتها لاستيلاء "حماس" على غزة، ثم اتجهت إلى موقف متوازن. والحقيقة أن هذا الموقف المتوازن هو الذي يعبر عن الاتجاه الرئيسي للسياسة المصرية تجاه الصراع الفلسطيني الداخلي منذ سنوات، رغم أنها تميل بالطبيعة إلى توجهات حركة "فتح" وتنفر وتقلق من توجهات "حماس". أما ما بدا أنه انحياز إلى "فتح" في اليومين التاليين لهزيمتها في غزة، فكان بتأثير المفاجأة وبدافع القلق مما سيؤدي إليه ذلك أكثر مما كان نتيجة اختيار سياسي. ومع ذلك يبدو موقف مصر تجاه ما آل إليه وضع القطاع تحت سيطرة "حماس" غير محسوم بشكل قاطع في ظل وجود منهجين رئيسيين في تقدير الأخطار الناجمة عن هذا الوضع. يركز المنهج الأول على خطر هيمنة حركة "إخوانية" على قطاع غزة في لحظة يتصاعد فيها الصدام بين الدولة المصرية وجماعة "الإخوان" الأم في القاهرة. ومؤدى هذا المنهج هو إنهاء هذه الهيمنة في أسرع وقت عبر إفشال حكم "حماس". أما المنهج الثاني فيركز على الخطر الذي يمكن أن يترتب على فشل حركة "حماس" في إدارة القطاع وحدوث فوضى تدفع أعداداً يصعب تقديرها من سكانه إلى التدفق إلى المدن المصرية على الحدود. ومؤدى هذا المنهج هو تجنب ما يؤدي إلى فوضى في القطاع عبر المساعدة في نجاح حكم "حماس". اعتباران متعارضان إذن، يؤثران على الموقف المصري. ولذلك اختارت مصر أن تصوغ سياستها بطريقة تجمع بين الاعتبارين من خلال الرهان على تغيير الوضع القائم في غزة، لكن عن طريق استئناف الحوار وليس من خلال السعي إلى إفشال حكم "حماس". غير أنه ليس هناك ما يمكن أن يدفع إلى توقع نجاح رهان على الحوار الوطني فشل من قبل في ظروف أقل سوءاً وحين لم تكن الخصومة بين "فتح" و"حماس" قد تحولت عداء يفوق عداءهما للعدو الحقيقي. ولذلك فإذا جاز أن نحدد طبيعة الموقف المصري تجاه سيطرة "حماس" على غزة لقلنا إنه ليس أكثر من موقف انتظاري بلغة لعبة الشطرنج. والمفترض في تكتيكات هذه اللعبة أن النقلة الانتظارية تهدف إلى كسب بعض الوقت للتفكير في نقلة رئيسية تؤثر على الرقعة. وفي هذه الحالة يكون الانتظار مفيداً ومنتجاً. ولكن بالعودة إلى معضلة قطاع غزة، لا يبدو أن لدى مصر أوراقاً مؤثرة في هذه المعضلة التي قد يصعب البحث عن حل لها قبل أن يتضح مسار الصراع الأكبر على المنطقة، وفي القلب منه الصراع الأميركي –الإيراني. وهذا هو ما يجعل الموقف الانتظاري المصري الراهن قلقاً في غياب رؤية واضحة لما هو قادم.