سواء تقصّدت أميركا أم لا فإنها طرحت عملياً، ومجدداً، المسألة الكردية على جدول الأعمال الإقليمي، فالدولي. تركيا تستشعر أكثر من سواها خطورة هذه المسألة التي تهددها بالتفتت والانقسام. لكن إيران شرعت تُعايش هذا الخطر منذ شهور، كما اكتشفت سوريا قبل عامين أن الشأن الكردي مرشح لإزعاجها داخلياً، في حين أن النظام الجديد في العراق أعطى لجيرانه فكرة واضحة عما ينتظرهم إذا ارتضى الفيدرالية عنواناً لتقسيم البلاد. في اندفاعها إلى ما تعتقده حسماً نهائياً لملف التمرد الذي يخوضه حزب "العمال الكردستاني"، أعادت تركيا إحياء التضامن الرباعي الضمني-العلني، ضد الأكراد، فهي نالت تأييداً سورياً بأعلى الصوت ومن الرئيس بشار الأسد مباشرة. أما إيران فلم تكن بحاجة إلى إعلان موقف لأنها تقصف منذ مدة مواقع حزب "العمال الكردستاني"، وبشكل يومي أحياناً، بعدما تيقنت بأن هناك استغلالاً أميركياً لهذا الحزب ضدها وفي اتجاه أكرادها. وحتى العراق، ممثلاً بـ"الحكومة المركزية"، لفت فيه صوت نائب الرئيس طارق الهاشمي معتبراً أنه إذا لم تكن حكومته قادرة على "الوفاء بالتزامها استئصال الإرهاب في شمال العراق"، فإنه "يصبح من حق تركيا الشرعي أن تحمي أمنها القومي ومصالحها بالتنسيق مع الحكومة العراقية". وفي هذا الكلام ما فيه من "تمرد" على الأمر الواقع "الفيدرالي". قد تكون تركيا، فضلاً عن سوريا وإيران، ارتأت أنه طالما أن العراق ذاهب إلى التفكك فإن هذه هي اللحظة المناسبة لإعادة احتواء المشكلة الكردية، التي كان الاحتلال الأميركي أعاد فتحها من خلال تبنيه للكيان الكردي المستقل في شمال العراق. وإذا كانت هناك ضربة أميركية لإيران في الأفق، فإن ثمة مصلحة تركية، كذلك سورية- إيرانية، في إثارة أزمة إقليمية- دولية حول الشأن الكردي، مخافة أن يستفيد الأكراد من إضعاف إيران كما استفادوا من إلغاء الدولة العراقية وجيشها ومؤسساتها، لذلك لم يتردد الأتراك في الذهاب إلى حد تحدي الحليف الأميركي، ليس فقط بالتأهب لانتهاك "سيادة" العراق وأراضيه، وإنما بالتنسيق والتفاهم مع سوريا وإيران. لم تكتف أنقرة بتكتيك "التكشير عن الأنياب" كما فعلت ضد سوريا عندما كانت الأخيرة تؤوي عبدالله أوجلان، الزعيم التاريخي لحزب "العمال الكردستاني"، والعديد من أنصاره ومقاتليه، فحينذاك استجابت للتهديدات بطرد أوجلان، ما أدى فيما بعد إلى اعتقاله بعملية استخباراتية تركية. هذه المرة أطلقت أنقرة التهديد وأرفقته بالتحرك على الأرض وفي الجو، مستندة إلى اتفاقات سابقة وحديثة مع بغداد تتيح لها مطاردة المتمردين داخل الأراضي العراقية. ومع أن الوضع الجديد في شمال العراق يفترض أن يكون للإقليم الكردستاني كلمة حاسمة في ما يجري، إلا أن التصميم التركي جعل أصحاب القرار-أي الأميركيين- يرجحون "الحل السياسي" بين الدولتين، العراق وتركيا، خصوصاً أن أنقرة لم تبد أي قبول للتعاطي مع إقليم كردستان العراق. بحثاً عن إطار لهذا الحل السياسي، رفع الجميع بمن فيهم الأميركيون الذين غضوا الطرف عن نشاط حزب "العمال"، شعار "الإرهاب هو الحل"، أي أن مكافحة الإرهاب كفيلة بإضفاء شرعية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة. لكن أنقرة أثبتت أنها تريد الحل السياسي سنداً للحل العسكري، لا إلغاء له، فما يمكن أن ينجز بالسياسة تلبية لشروط تركيا لن يعتبر في نظرها سوى خطوة لازمة إلا أنها غير كافية للحسم، والحسم الذي تريده هو إنهاء وجود حزب "العمال" ومقاتليه في الجبال. لكن السقف العالمي للتهديدات والشروط لا يعني بالضرورة أن أنقرة ستحصل على كل ما تطالب به، ولابد أن تتعامل بشيء من الإيجابية والاعتدال لإنجاح الحل السياسي، وإلا فإنها ستتعرض عندئذ للخطوط الحمراء الأميركية، أي أن ما يسمى "عملية تركية" في شمال العراق يجب ألا يؤثر إطلاقاً على الوضع الداخلي العراقي بكل ما فيه من فوضى واضطراب. في هذه المعمعة الإقليمية، يواجه الكيان الكردي الفيدرالي في شمال العراق الامتحان الأول لوجوده ولمكانته الجيو-سياسية، فعلى رغم أن لديه جيشاً من البشمركة، مدرباً ومجهزاً جيداً، وعلى رغم إبدائه الاستعداد عبر برلمانه الخاص للمواجهة تحت عنوان الدفاع عن النفس، فإن الأتراك تصرفوا حيال هذا الكيان الكردي كأنه غير موجود ولا يعنيهم. وقد تأكد لأكراد العراق أن لتركيا مفهومين في التعامل معهم: الأول أنهم كيان سياسي لا تعترف به أنقرة، وبالتالي فإنها لا ترى مسوغاً للتعاطي معه لأنه ليس دولة. والثاني، وهو الأخطر، أنه كيان يؤوي "الإرهابيين" ويؤمن لهم الحماية والدعم، ما يعني وجوب النظر في معاقبته وفقاً للقواعد الدولية لمكافحة الإرهاب. استطراداً، يخضع التفاوض مع بغداد لاتفاقات تعطي الأتراك "حق" التوغل في الأراضي العراقية لمطاردة "الإرهابيين"، كما يخضع لأمر واقع مفاده أن لا جيش عراقياً في الشمال وإنما هناك قوات كردية غير خاضعة للحكومة المركزية في بغداد. طبعاً، لا يشكل حزب "العمال الكردستاني" سوى عنوان وذريعة لهذه المرحلة، ولن يمانع الأميركيون التضحية به تبديداً لإزعاجات لا لزوم لها خصوصاً من جانب حليف أطلسي مثل تركيا. لكن النهاية التي ستؤول إليها الأزمة الراهنة ستحدد أسلوب التعامل مع القضية الكردية في المستقبل، ولا شك في أنها ستنعكس على الوضعية العامة لإقليم كردستان العراق، الذي قد يجد مصلحة في تظهير إنتمائه إلى الدولة العراقية أقلّه في هذه المرحلة.