شرفت يوم الاثنين قبل الماضي بحضور منتدى صحيفة "الاتحاد" في دورته الثانية. لم يكن بمقدوري أن أحضر الدورة التأسيسية للمنتدى في العام الماضي لظروف شخصية، لكن الفرصة أتيحت لي هذه المرة كي أشارك وأتابع عن كثب بداية تحول هذه المبادرة الخلاقة إلى تقليد راسخ أحسبه غير مسبوق في صحافة الرأي العربية، ففي حدود علمي هذه هي المرة الأولى التي تحرص فيها صحيفة عربية على جمع كُتاب الرأي فيها في لقاء سنوي يناقش بعضاً من أهم قضايا الأمة، وهو بكل المعايير يمثل إضافة للحياة الفكرية العربية بالنظر إلى ثراء صفحات "وجهات نظر" في صحيفة "الاتحاد" بمعين لا ينضب من الأفكار الرصينة التي تتعلق بهذه القضايا، ولولا أنني من الذين يشرفون بالكتابة في "وجهات نظر" لكان بمقدوري أن أدلي بشهادة أكثر إنصافاً في حق هذه الصفحات التي أحسبها بدورها –من زاوية مساحة الحرية المتاحة لكتابها والتنظيم الدقيق للعمل فيها- أهم صفحات الرأي في الصحافة العربية. اختار منظمو المنتدى له في هذا العام موضوع "المشهد الثقافي العربي الراهن"، وقد كانت للأستاذ الكبير الدكتور محمد عابد الجابري ملاحظة شديدة الدلالة على هذا العنوان في استخدامه للفظ "المشهد"، وكيف أننا في السابق كنا أكثر استخداماً لكلمات مثل "الوضع" أو "الوضعية" أو "الحالة" أو "المعطيات". أما كلمة "مشهد" فتشير إلى علاقة أقوى بالذات، ربما بمعنى أن كلاً منا قد يراه من زاويته الخاصة، ولاشك -بغض النظر عن التسمية- في أن المسألة الثقافية في السياق العربي الراهن تكتسب أهمية فائقة بالنظر إلى أن الهجمة على الأمة تتضمن -على نحو يذكرنا بالحقبة الاستعمارية- بُعداً ثقافياً واضحاً بالغ الخطورة، وقد تفضي ضراوة الهجمة بالبعض إلى ردود أفعال غير سوية تنزلق إلى أفكار تتماشى مع منطق صراع الحضارات أو الهروب إلى العزلة والانغلاق على الذات، الأمر الذي يبرز الأهمية الفائقة لطرح موضوع كهذا للحوار العلمي الحر، بحيث نتمكن كما تمكن المناضلون العرب في الحقبة الاستعمارية السابقة من الحفاظ على ثوابتنا دون الانزلاق إلى مواقف ثقافية خارج التاريخ. شاركت في تقديم أوراق العمل إلى المنتدى أسماء بهامات محمد عابد الجابري والسيد يسين وطيب تيزيني، وأثار ما قدموه في أوراقهم حوارات بالغة الثراء، لأن من حاوروهم يعيشون الهمَّ نفسه، ومتعمِّقون في متابعة أدق تفاصيل المسألة الثقافية في الوطن العربي. عرض الجابري للتحولات التي تمت في الثقافة العربية بين مرحلتي التحرر الوطني والعولمة إذا جاز التعبير، وقدم في هذا الصدد رؤية صافية ربما ساعده عليها أنه كان يعيش الموضوع من داخله منذ بدايته إلى نهايته، أو وفقاً للتعبير الجميل الذي استخدمه: "كنتُ في الشارع أطل على نفسي من النافذة"، لكنه ختم ورقته القيمة بأنه لو طلب منه الانطلاق من المشهد الثقافي العربي كما هو في الوقت الراهن لاعترف بأن هذا المشهد يبدو له "كمن يرى صورته في مرآة مهشمة". وقد فضل أستاذنا الكبير إذن أن يتكلم من داخل المرآة وليس عما يمكن أن يراه على سطحها، وقد فتح الباب بنموذج "المرآة المهشَّمة" هذا لحوارات بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل ثقافتنا العربية تنطلق من النظر في حجم الشظايا التي تكسر إليها سطح المرآة، وما إذا كانت أجزاء من هذا السطح قد تكسرت تماماً، والأهم من ذلك من الذي قذف المرآة بالحجر وهشمها؟ وهل نستطيع ترميمها أم إننا بتنا بحاجة إلى مرآة جديدة؟ قدم د.طيب تيزيني رؤية عن "الخصوصية الثقافية وموقفها من العولمة" انتهى منها إلى عدم غض النظر عن العولمة لنتائج كبرى أتت بها "خصوصاً منها ثورتا الاتصالات والمواصلات، والإسهام الضمني في فتح ملف إعادة بناء العالم لصالح الحرية والعدل والكرامة والحقوق التي تفرضها تعددية البشر في ثقافتهم ومفاهيمهم وقيمهم وخياراتهم وغيرها"، ولكنه أكد بعد ذلك على الكفاح "من أجل تجاوز العولمة بوصفها نظاماً جديداً يسعى إلى ابتلاع الطبيعة والبشر وهضمهم وتمثلهم وإخراجهم سلعاً"، ومن هنا نبَّه من ناحية إلى التعامل مع العولمة على نحو نقدي حذر عبر المشاركة في مصائر العالم المعاصر دون نسيان أن العولمة "لم تغتصب ثقافات الشعوب فحسب وإنما اغتصبت كذلك التاريخ"، وقد أعقب تقديم الورقة ملاحظات نقدية مهمة بدا أنها انطلقت وكأن د. تيزيني معادٍ للعولمة على نحو مطلق، ولم تخلُ بعض ردود الأفعال أيضاً من مواقف شديدة الوضوح في تأييدها للعولمة، وبدا أن ثمة استقطاباً فكرياً في هذا الصدد ينبغي أن يكون موضوعاً لحوار ممتد. ركزت ورقة الأستاذ السيد يسين على السياسات الثقافية واجبة الاتباع في مواجهة ظاهرة التطرف الأيديولوجي، وقدم في هذا الصدد رؤية إبداعية متكاملة تتضمن تخطيطاً علمياً لهذه السياسات، وقد ركز المتحاورون في تعليقهم عليها على فكرة مهمة تتعلق بآليات التنفيذ بالنظر إلى ما بدا من أن الخطة المقترحة لهذه السياسات مطروحة على الدولة العربية التي أجمع المتحاورون على أنها ليست مؤهلة للاضطلاع بهذه المهمة، وأن هذه الدولة في صراعها مع التيارات الفكرية المتخلفة تنازلها على أرضيتها المتخلفة ذاتها، فكيف لها أن تقود عملية تنويرية ضخمة كتلك التي يطرحها الأستاذ السيد يسين؟ ليس هذا العرض السريع لوقائع المنتدى إلا غيضاً من فيض، ويستطيع القارئ الكريم -وأتمنَّى أن يفعل هذا- أن يعود إلى نصوص هذه الأوراق وما أثارته من حوارات عميقة، لكي يدرك مدى الإثراء الذي أضافه منتدى امتد ليوم واحد فحسب عقدت فيه ثلاث جلسات لمثل هذه القضية المهمة. اختلفت الآراء بل اشتعلت حدة الحوار حيناً، لكن الخلاصات الصحيحة لا تولد إلا عبر آليات الحوار الحر. تمنى البعض في حواراتهم في كواليس المنتدى أن يكون أكثر امتداداً من الناحية الزمنية، وإن كنت على العكس أرى أن حصره في يوم مع دقة التنظيم قد جعل منه عملاً راقياً مركزاً لا يضيع الوقت في هوامش واستطرادات حوارية لا طائل وراءها. ومع ذلك فإذا كان لي أن أقترح تطويراً لعمل المنتدى في المستقبل فإنني أتمنى أن يجرب منظموه أن تكون مادته الحوارية مستمدة من مضمون صفحات "وجهات نظر" في عام، بحيث تعد أوراق تحليلية عن بعض من أهم قضايا الأمة -ولتكن ثلاثة كي تناقش في ثلاث جلسات على مدار يوم واحد- كما طرحت في "وجهات نظر" من قِبل عديد من الكتاب عبر عام كامل، وسوف يكون ذلك مهماً لكي نرى مدى ثراء الأفكار المطروحة وجدارتها وأين أصابت توقعاتها وأين أخفقت، وماذا كان الحال ليؤول إليه لو أن بدائل العمل التي اقترحتها مقالات "وجهات نظر" قد وضعت موضع التطبيق. وإذا كان هذا الاقتراح يبدو صعباً في تنفيذه فلنجربه في قضية واحدة يمكن أن تكون موضوع المنتدى القادم، ولو قدر لهذه الفكرة أن يؤخذ بها يوماً فقد تكون مقدمة لإضافة جديدة تقدمها "وجهات نظر" عبر إصدار "تقرير أو كتاب سنوي" تحليلي عن العصارات الفكرية التي قدمتها "وجهات نظر" في عام إن لم يكن في كل ما تناولته من قضايا فعلى الأقل في بعضها. وفي كل الأحوال فإن الشكر واجب لأصحاب المبادرة والقائمين على تنفيذها والذين أحسنوا تنظيمها وإخراجها على هذا النحو، ممهدين الطريق بذلك -كما سبقت الإشارة- لتقليد جديد بالغ الثراء في صحافة الرأي العربية.