عرضنا في المقال السابق لموضوع "أسباب النزول" بصورة عامة. ومن أجل أن نوضح بعض ما ورد في ذلك المقال/ المدخل من تعميمات نقدم اليوم مجموعة من الروايات في موضوع "تحريم الخمر" كمثال، لنعود بعد ذلك إلى إلقاء نظرة فاحصة عليها، فنقول: القرآن المكي في جملته قرآن دعوة وليس قرآن تشريع. وقد ورد ذكر الخمر فيه بالاسم في سورة يوسف، حكاية عن فتى كان مع يوسف عليه السلام في السجن، قال إنه رأى في المنام أنه يعصر "خمراً"، ففسر له يوسف ذلك الحلم بكونه سيسقى سيده "خمراً"، أي سيخرج من السجن (يوسف 36). كما وردت الإشارة إليها، ولكن دون ذكر اسمها، في سياق تعداد نعم الله على الناس في قوله تعالى: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ [ما] تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" (النحل 67). والمعنى أن الله أنعم عليكم بثمرات النخيل والعنب: من تلك الثمرات ما تتخذون منه ما يسكر بفعل التخمير، ومنها ما تأكلونه في حالته الطبيعية رزقاً حسناً: تمراً وعنباً. وكان الصحابة آنذاك، يشربون الخمر، إذ كان حكمها ما يزال على الإباحة. أما في القرآن المدني فقد ذكرت الخمر في عدة آيات، منها واحدة تتحدث عن الخمر في الجنة (وهي غير مسكرة) في إطار تعداد نِعم الجنة، بوصفها "لذة للشاربين" (محمد 15). وما يهمنا هنا هي الآيات التي نزلت في تحريم الخمر وهي أربع حرص المهتمون بـ"أسباب النزول" على إيراد روايات وقصص عن وقائع ونوازل يقولون إن تلك الآيات جاءت استجابة لها، أي كأسباب نزول. وهذه الآيات هي كما يلي حسب ترتيب نزولها: أ- الآية الأولى: تذكر روايات عديدة، تزكيها الآية التي تعنينا هنا، أن النبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة سأله أهلها عن الخمر، هل هي حلال أم حرام -وقد سألوه من قبل ومن بعد عن أشياء كثيرة- فنزل قوله تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (القمار)، قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا" (البقرة 219). وفي رواية أنهم قالوا: "يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله، فسكت عنهم"، بمعنى: دعنا نستفيد من جانب المنفعة فيها، فتركهم ولكنهم لم يتجنوا جانب الإثم فيها، فنزلت الآية التالية. ب- الآية الثانية: في رواية ذكرها أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبدالرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذَتِ الخمرُ منا، وحضرتْ الصلاةُ فقدموني (ليَؤُمَّ بهم) فقرأت: "قلْ يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون"، فأنزل الله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون..." (النساء 43). (السيوطي "اللباب"، الطبري... الخ). "فقالوا: يا رسول الله لا نشربها عند اقتراب وقت الصلاة، فسكت عنهم. ج- الآية الثالثة: تذكر الروايات عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: "فيَّ نزل تحريم الخمر: صنع رجل من الأنصار طعاماً، فدعانا فأتاه ناس، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا من الخمر، فتفاخروا: فقالت الأنصار: الأنصار خيرٌ، وقالت قريش: قريش خير. فأهوى رجل بلحيي جزور (فك الذبيحة) فضرب على أنفي ففزره (شقه)"، قال: "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت ذلك له، فنزلت هذه الآية: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ" (المائدة 90- 91). هناك روايات أخرى عن سبب تحريم الخمر في الآية السابقة، منها أن علياً بن أبي طالب وجد ذات يوم ناقة له قد أُبْقِرت وقُطع سنَمُها وأُخِذ من أكبادها. فلما سأل عمَّن فعل بها ذلك قالوا له: حمزة (عمه). فذهب وأخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بالحادث وبوجود حمزة في بيت شراب يشرب مع رفاق له. فانطلق الرسول عليه الصلاة والسلام حتى جاء البيت الذي فيه حمزة "فإذا هو ثمل محمرّة عيناه، فقال (حمزة): "وهل أنتم إلا عبيد لأبي، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى". "وكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر" (البخاري). وفي رواية أخرى أن عبدالله بن عمر قال: "إن هذه الآية التي في القرآن "يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" هي في التوراة، هكذا: "إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب (لعب القمار) والزفن (الرقص) والمزامير والكبارات، يعني البرابط (من آلات الملاهي)، والزمارات، يعني الدف، والطنابير والشعر والخمر مرة لمن طعمها، وأقسم ربي بيمينه وعزة حيله لا يشربها عبد بعدما حرمتها عليه إلا عطشته يوم القيامة، ولا يدعها بعدما حرمتها إلا سقيته إياها من حظيرة القدس". (قلت: وقد ورد هذا المعنى –تقريباً- في "سفر إشَعْيَاء"). د- الآية الرابعة: في رواية عن أنس بن مالك، قال: "بَـْينا أنا أُدير الكأس علـى أبـي طلـحة وأبـي عبـيدة بن الـجرّاح ومعاذ بن جبل وسهيـل بن بـيضاء وأبـي دجانة، حتـى مالت رؤوسهم من خـلـيط بسر (تمر قبل النضج) وتمر، فسمعنا منادياً ينادي: ألا إن الـخمر قد حرِّمت! قال: فما دخـل علـينا داخـل ولا خرج منا خارج حتـى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال. وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا فأصبنا من طيب أمّ سلـيـم ثم خرجنا إلـى الـمسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ: "يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنَّـمَا الـخَمْرُ وَالـمَيْسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فـاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِـحُونَ". إلـى قوله: "فَهَلْ أنْتُـمْ مُنْتَهُونَ". وتضيف الرواية: "فقال رجل: يا رسول الله، فما منزلة من مات منا وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالـى: "لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة 93). وتذكر المصادر روايات أخرى للسؤال نفسه، بصيغ متقاربة، بوصفه سبب نزول الآية المذكورة. والمبدأ في الإسلام، في مجال الحلال والحرام، هو ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يرد الشرع بخلاف ذلك. فشرب الخمر قبل نزول آية تحريمها كان حلالاً. (انظر مزيداً من التفاصيل والروايات حول تحريم الخمر في كتب التفسير مثل تفسير الطبري وتفسير ابن كثير وكتب الحديث).