يتسبب تدمير البيئات الطبيعية حول العالم، في تأثيرات سلبية هائلة على صحة البشر، وعلى مستوى معيشتهم وبقية جوانب حياتهم. هذه هي النتيجة التي خلص إليها تقرير صدر قبل أيام قليلة عن المفوضية الدولية للبيئة والتنمية، التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمعروفة حالياً بمفوضية "برنتلاند" (Brundtland Commission)، نسبة إلى رئيسة الوزراء النرويجية السابقة. ويشير التقرير الذي صدر عن المفوضية بعنوان "التوقعات المستقبلية للبيئة في العالم" (Global Environmental Outlook)، إلى عدة مؤشرات تُظهر حجم التدهور البيئي حول العالم، وتأثير هذا التدهور على الجوانب المختلفة للحياة الإنسانية. ومن ضمن هذه المؤشرات نذكر: 1- تراكم الأدلة القطعية على فداحة التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على البيئات الطبيعية. 2- تراجع مساحات الأراضي الصالحة للزراعة، بسبب تدهور حالة التربة والتصحُّر، مع بلوغ العديد من النظم الزراعية أقصى حدود طاقتها الإنتاجية حالياً. 3- ارتفاع درجة الحرارة، وزيادة حموضة مياه المحيطات، مما يهدد تواصل السلسلة الغذائية. 4- شبح النقص المزمن للمياه العذبة، يحوم فوق رؤوس 1800 مليون شخص حول العالم، أو ما يعادل ثلث أفراد الجنس البشري تقريباً. 5- تتعرض ثلاثة أرباع مناطق الصيد لممارسات الصيد الجائر، وهو ما أدى إلى استنزاف مخزونها من الحياة البحرية. 6- يتسبب التلوث بأشكاله المختلفة في 20% من جميع الأمراض التي يصاب بها حالياً سكان الدول النامية. حيث تشهد الأمراض المعروف عنها ارتباطها بالتدهور البيئي "صحوة" جديدة، تظهر في شكل انتشار العديد من الأوبئة. 7- هذا التلوث، كثيراً ما يتم "تصديره" من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، إما بشكل مباشر أو غير مباشر. 8- تعاني ستون في المئة من النظم البيئية حول العالم من التدهور، والتصدع والانهيار التام أحياناً. من السهل عند قراءة قائمة المؤشرات تلك، أو غيرها من المقالات والمؤشرات التي تعرض لحالة البيئة على مستوى العالم، أن يصاب المرء بالإحباط الممزوج بالشعور بالعجز، أمام حجم وفداحة المشكلة. وإن كانت الحقيقة عكس ذلك، حيث لا زال بإمكاننا وقف الموت البيئي العالمي، وعكس اتجاه انحداره وتدهوره المستمر. ولكن لتحقيق هذا الهدف، ينبغي أولاً أن ندرك العوامل التي تسببت في مثل هذا الضرر خلال العقود القليلة الماضية، وبشكل لم يحدث خلال ملايين السنين من وجود الحياة على كوكب الأرض. وأهم هذه العوامل، ربما كان القفزات الهائلة التي حدثت خلال القرن الماضي على صعيد التنمية، الهادفة إلى رفع مستوى معيشة الأفراد من خلال الاعتماد على الاختراقات العلمية، والتطورات التكنولوجية، واستمرار استغلال -أو بالأحرى استنزاف- المصادر البيئية الطبيعية. ولكن هل لابد لتحقيق التنمية، ولتحسين مستوى حياة البشر، أن يكون الثمن تدمير البيئات الطبيعية، الضرورية لاستمرار الحياة البشرية من الأساس؟ إجابة هذا السؤال، يلخصها البعض في مصطلح "التنمية المستدامة" (sustainable development). هذا المصطلح يحمل في طياته العديد من المفاهيم التي تخضع لشروح مختلفة ومتباينة. فمنذ عام 1980، ومع بدء الاعتراف الدولي بالترابط القوي بين البيئة والتنمية، نشر الاتحاد الدولي للحفاظ على البيئة تقريراً بعنوان "الاستراتيجية الدولية لحماية البيئة"، استخدم فيه للمرة الأولى مصطلح "التنمية المستدامة". بعدها كان على هذا المصطلح الانتظار حتى عام 1987، كي يدخل حيز الانتشار والاستخدام الدولي الواسع، مع نشر تقرير مفوضية "برنتلاند" سابقة الذكر، والتي صاغت التعريف الأكثر شهرة واستخداماً حالياً للتنمية المستدامة. وهذا التعريف ينص على أن التنمية المستدامة: هي التنمية التي تتيح للجيل الحالي الوفاء بمتطلباته، دون الإخلال بقدرة الأجيال المستقبلية على الوفاء بمتطلباتها أيضاً. وهو ما يجعل التنمية المستدامة عملية اجتماعية بيئية، تتميز بالقدرة على الوفاء بالاحتياجات البشرية الحالية، مع الحفاظ على مستوى ونوعية المصادر البيئية للأجيال القادمة. ولا يعني ذلك أن التنمية المستدامة تركز فقط على الأمور البيئية. بل تتضمن في مفهومها الواسع، جميع السياسات التنموية التي تأخذ في الاعتبار القضايا الاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ولن يتسع المقام هنا لذكر جميع المجالات التي يتضمنها هذا المفهوم، والتي يبلغ عددها قرابة الأربعين مجالاً مثل الصحة، والطاقة، والتكنولوجيا الحيوية، والنمو السكاني، والتنوع الحيوي، والتصحر، والسياحة، وغيرها الكثير. بل يمكن القول إن التنمية المستدامة ترتبط بشكل أو بآخر بجميع مظاهر الحياة الحديثة. ومثل هذا التنوع الهائل في المجالات التي تغطيها التنمية المستدامة، يجعل من العسير قياس مدى التقدم أو التقهقُر في العلاقة بين التنمية وبين الحفاظ على المصادر الطبيعية للمستقبل. وهو ما دفع بعض الجهات والمنظمات المختلفة خلال العقد الماضي، إلى استخدام ما يعرف بمؤشرات الاستدامة القياسية. هذه المؤشرات تحمل في طياتها القدرة على تحويل مفهوم التنمية المستدامة من مصطلح نظري، إلى واقع عملي يمكن تطبيقه وقياس نتائجه. ولكن للأسف لا زلنا بعيدين حالياً عن تطبيق مثل الهدف. وهو ما يجعل التنمية المستدامة، موضوعاً أكاديمياً، يستمر اختلاف وجدال الخبراء والمختصين حول مضامينه ومكوناته، في الوقت الذي يتزايد فيه استمرار تصحُّر الأراضي، و"موت" البحار، واحتضار القارات.