ليس غريباً أن يكون رمضان الكريم في هذا العام قد شهد تنافساً درامياً شرساً على مساحة الفضاء المتاحة للقنوات المتنافسة على كسب رضا الجمهور والظفر بإرضاء رغبات المتلقّين، فهذا الشهر الكريم قد أصبح بامتياز شهر الخير والبركات وشهر الدراما والقنوات. ثمّة عددٌ من الأعمال الدرامية والمسلسلات أثارت إعجاب ومتابعة المشاهد العربي، كما أثارت العديد من الأسئلة والحوارات، مع عدد من الجدالات العميقة والعقيمة التي أحدثها خصوم الدراما قبل أنصارها في فضاء الإعلام الحرّ ومنتديات الشبكة العنكبوتية. فنيّاً، أثار عدد من المسلسلات لغطاً لأنه لامس المسكوت عنه أو المغيّب قسراً عن التداول المجتمعي، وبعضها لأنه لامس مكبوتاً اجتماعياً وقيمياً وتاريخياً أراد التعبير عن نفسه، ومثال الأول مسلسل "الملك فاروق" وحلقة "ليبراليون ولكن" في المسلسل السعودي الشهير "طاش ما طاش"، ومثال الثاني المسلسل السوري "باب الحارة". مسلسل الملك فاروق أثار اللغط لأنه عملٌ تمّ إنتاجه درامياً على يد طاقمٍ سوري، رغم أنه عملٌ يتعلّق بمرحلةٍ حسّاسة من تاريخ مصر، بدءاً من المخرج حاتم علي الذي شهدت له أعماله السابقة بالإبداع كمسلسل "الزير سالم" ومسلسل "صلاح الدين" و"صقر قريش"، وكذلك "ربيع قرطبة"وغيرها، وصولاً إلى بطل العمل السوري تيم الحسن الذي كان مبدعاً في إتقانه لشخصية الملك فاروق ذلك الإنسان ذو الأصل غير العربي والذي يتحدث العربية بطلاقة بل واللهجة المصريّة كذلك، وانتهاء بطاقم العمل الذي اختار المخرج أغلب عناصره المؤثرة. إن كان هذا لغط الفنّ وإثارته، فإن لغط التاريخ والسياسة كان أعمق أثراً وأوسع انتشاراً، سواءً من الحركات والأحزاب والأفراد المعارضين أو أولئك الموالين لتلك الحقبة المهمة من تاريخ مصر والعرب، وبمثالٍ يحمل طابع الرمز الشخصي يمكننا القول بأن مسلسل "الملك فاروق" قد أثار ضجةً تمتدّ من دوغمائية وتعصّب أسامة أنور عكاشة وناصريته المنقرضة وصولاً إلى سعد الدين إبراهيم ومنهجيته التاريخية وليبراليته. إن كنّا نأتمن التاريخ على شيء فإننا نأتمنه على "كمون" الحقيقة فيه، ومنح "إمكانية" الوصول إليها إلى كافّة الدارسين بحيادية عجيبة، تعتبر أمانةً عظيمة وفىّ لها التاريخ وسيفي على الرغم من إكراهات الحاضر وسطوة المتوارث وغليان الجمهور! كما شاهد الملايين، فإن المسلسل لم يظهر فاروق فاسداً داعراً منافقاً كما حاولت أن تروّج أجهزة وإعلام عصر الجمهورية من بعده، كما لم يظهره كقدّيسٍ لا يصل إلى الخطأ ولا يتجلّله الزللّ، بل على العكس لقد أظهره المسلسل كإنسانٍ متفرّدٍ وشخصيةٍ مستقلّة، شخصية يعيش الحرّ فيها مع العبد، والفقير مع الغني، يحنو على مصر وشعبها ويتلاعب بالسياسة داخلياً مع الأحزاب وخارجياً مع الإنجليز والألمان، ويعرض علاقته المعقّدة مع والدته وزوجته، إنه باختصار يرينا الإنسان فاروق، لا الملك فاروق بكل أنصاره وخصومه. لقد علّمنا مسلسل "الملك فاروق" أن التاريخ يكتبه المنتصرون ولكن ليس لكلّ الٍحقب، بل إن التاريخ لا يلبث أن ينعش نفسه ويستعيد ذاكرته، وينصف المضطهدين فيه، ويمنحهم مساحة بل مساحاتٍ من التعبير عن أنفسهم وآرائهم وأعمالهم. إن المسلسل يثير فيما يثير من الإشكاليات، إشكالية المقارنة بين الأنظمة العربية بوجهها الملكي والأنظمة العربية بوجهها الجمهوري، ذلك أنني أحسب أنّ الأنظمة الملكية العربية مع كلّ نواقصها وأخطائها أعدل وأرحم وأكثر نجاحاً وازدهاراً من الأنظمة الجمهورية العربية. فمن المغرب العربي غرباً وحتى الخليج العربي شرقاً، نجد الأنظمة الملكية تتسم بسمات الرحمة والاحترام والأدب ومراعاة مقامات الناس في أوطانهم، ربما خالط ذلك أحياناً إجحاف في حق فئات أخرى ولكنه لا يلبث أن يعتدل، وهو عكس ما يحدث في كثير من الأنظمة الجمهورية العربية حيث لا اعتبار للإنسان ولا لمقامه ولا لكرامته ولا لشيء آخر غير نسبة عبوديته وولائه لهذا النظام أو ذاك. إن تراكم التجربة التاريخية والحرص الملكي المتوارث على تأديب الأبناء واكتسابهم لأكمل الصفات الأخلاقية من الكرم والحزم والشجاعة والعفو والصفح والرحمة والعدل وعفة اللسان وسرعة البديهة وانتقاء الكلمات ونحو ذلك، قد أنتج أجيالاً جديدة في الملكيات العربية المعاصرة استطاعت المواءمة بين النظرية والتطبيق في أخلاق الملوك، واستطاعت أن تحوّل ذلك إلى واقع ملموس لا تكاد تخطئه عين، وذلك حديث ذو شجون. من جانبٍ آخر كانت حلقة "ليبراليون ولكن" من أكثر الحلقات المثيرة للجدل على طول مسيرة مسلسل "طاش ما طاش" التي وصلت إلى خمسة عشر عاماً من النجاح. بدايةً، أحسب أن جميع الأطراف المتنازعة على كعكة القيادة والتأثير والانتشار في المجتمعات العربية والخليجية، تتفق على أن "الليبرالية" تعتبر مفهوماً نشأ وتطوّر ضمن سياق ثقافي وحضاري مختلفٍ عن السياق الثقافي والحضاري ببُعديه العربي والإسلامي. إن نقطة الانطلاق هذه تمنحنا مساحة من النسبية المشروعة في قراءة المفهوم، نعم الليبرالية كغيرها من المفاهيم الكبرى لها مشتركاتٌ عامّةٌ تجمع أطياف المنتمين إليها والمتأثرين بها والحاملين لرايتها، ولكنها أيضاً تمنح مساحاتٍ من الاختلاف والتباين تعبر عن ذلك كتابات عددٍ من المفكرين الذين نظّروا لليبرالية في كثير من المجالات كالمجال السياسي والمجال الاقتصادي وغيرهما، كما عبّرت عن هذه المساحة تطبيقات المعتنقين لهذا المفهوم على الأرض سواء كانوا أفراداً أم أحزاباً. إنّ ما يلفت الانتباه في ردّة الفعل الاجتماعية تجاه الحلقة يكمن في تجلٍ حقيقيٍ لواحدٍ من أهداف الليبرالية ألا وهو "حريّة التعبير"، فقد وقف المجتمع مواقف متباينة من الحلقة، فمنهم تيّارٌ رأى أنّ الحلقة تعرّي التيار الليبرالي كما هو في الواقع، أو هكذا أراد هذا التيّار لأتباعه أن يفهموا، وهذا موقف يمكن تفهّمه في ظل الصراع الدائر على أرض الواقع، ومثّل هذا التوجه بعض رموز التيّار المحافظ حتى صرّح أحدهم بأنّ كلّ كتبه ومقالاته لا توضح التيّار الليبرالي كما توضحه هذه الحلقة! لقد كان التيّار الليبرالي ليبرالياً حقيقياً في موقفه من الحلقة، فقد تعدّدت آراء بعض المنتسبين إليه تعدداّ يثير الدهشة وشيئاً من الإعجاب، ذلك أنهم وهم الداعون لحرية الفرد في التعبير واتخاذ المواقف كانوا على موعدٍ مع اختبارٍ صعبٍ لمبادئهم، فكانوا على قدر الاختبار، فتعدّدت مواقفهم وعبّر كلٌ منهم عن رأيه بحريّة واستقلالية، بعكس بعض الأطياف المحافظة والإسلاموية منها تحديداً والتي عادةً ما تتخذ موقفاً واحداً تصدره القيادة ويأخذه الأتباع على أنّه أمرٌ مسلمٌ به واجب الإتباع، ويروّجونه كلٌ "حسب استطاعته" و"حسب ما يمليه عليه اجتهاده"! نعم، كان في الحلقة خلطٌ بين الليبراليين وبين غيرهم من أطياف المثقفين السعوديين، كاليساريين والقوميين وغيرهم، كما أن الحلقة تعرّضت لانتقاداتٍ منها أهمها أنّ الحلقة لم تعرّف الليبرالية للمشاهد ـ وهذا ليس من شأنها ـ فالقصور في تعريف الليبرالية للمجتمع، قصورٌ يتحمّله الليبراليون أنفسهم، ومن الانتقادات كذلك أن التركيز في الحلقة كان على بعض السلوكيات التي يمارسها عددٌ من الأشخاص داخل المجتمع من تياراتٍ متعددةٍ وليست هذه السلوكيات حصريّةٌ على المنتمين للتيار الليبرالي، وأحسب أنّ هذا النقد مصيبٌ ومقنع.