في عهد زعيمها المؤسس "ماو تسي تونج"، كانت الصين حريصة على تزويد الدول النامية بأجود ما تنتجه من السلع بُغية تلميع صورتها في أعين شعوب تلك الدول والظهور بمظهر الدول الصناعية القادرة على منافسة الدول المتقدمة. وفي هذا السياق يقول أحد التقارير إن الصين زودت فيتنام بنوعيات متطورة من البنادق والرشاشات والمدافع التي لم تزود بها جيشها الأحمر، ليكتشف الجنود الصينيون لاحقاً، أي أثناء الحرب القصيرة بينهم وبين الجيش الفيتنامي في عام 1979، أنهم يُقتلون بأسلحة صينية أكثر تطوراً من تلك التي بحوزتهم. ويبدو أن هذا المنحى استمر حتى الآن، بمعنى أن ما تصدره الصين إلى الخارج من سلع هي أجود نسبياً مما تعرضه للمستهلك المحلي. غير أن هذا لم يمنع من اكتشاف أن المنتج الصيني بصفة عامة لا يزال بعيداً عن معايير الجودة والأمان العالمية، وبالتالي تفصله هوة كبيرة عن مثيلاته المصنوعة في البلاد الآسيوية المتقدمة، دعك من دول الغرب، رغم التقدم المشهود التي حققته المصنوعات الصينية في العقدين الأخيرين، واكتساحها للأسواق العالمية بسبب رخص أثمانها. وهذا تحديداً ما أشارت إليه جملة من الأحداث المتلاحقة هذا العام والتي صدرت على إثرها انتقادات لاذعة للسلطات الصينية من دول الغرب واليابان وسنغافورة بسبب تساهلها في التقيد بمعايير الجودة والأمان العالمية وتركها الحبل على الغارب للمصنعين المحليين للتقليد والغش والتحايل واستخدام مواد مضرة بالصحة الآدمية فيما تصدره من مأكولات ومشروبات روحية وسجائر وكماليات مثل ألعاب الأطفال المدهونة بمواد تحتوي على نسبة عالية من الرصاص، والأدوية غير المحضرة تحضيراً علمياً دقيقاً، ومعاجين الأسنان الحاوية على مواد سامة، وبطاريات الهواتف النقالة التي سرعان ما تنفجر في وجوه أصحابها، وإطارات السيارات القابلة للعطب السريع على الطرقات، وغير ذلك. فمؤخراً مثلاً قامت شركة "ماتيل" الأميركية التي تعتبر من أكبر مصنعي ومسوِّقي ألعاب الأطفال في العالم، والتي ارتبطت مع إحدى الشركات الصينية منذ أكثر من عقد بعقود لتصنيع الألعاب لحسابها وفق تصاميمها الخاصة، بإعادة أكثر من 17 مليون قطعة من الألعاب بعد اكتشاف طلائها بمواد ضارة بالصحة، الأمر الذي تسبب في إغلاق هذه الشركة وتشريد الآلاف من عمالها، بل وانتحار كبير مسؤوليها. وعُدَّت هذه التطورات بمثابة انتكاسة مؤلمة لصناعة الألعاب في الصين التي تعتبر الأكبر على مستوى العالم بدليل استحواذها على حصة تفوق 60 بالمئة من الإنتاج العالمي وتصديرها نحو 22 بليون قطعة في العام الماضي. ومن الأمثلة الأخرى اكتشاف السلطات الأميركية والكندية في أبريل الماضي أن حوادث نفوق الكثير من القطط والكلاب المنزلية مرتبطة بما تناولته من أغذية معلبة مصدرها الصين، وادعاء المسؤولين في بنما وهايتي بأن بعض أدوية السعال المصنوعة في الصين كانت سبباً في وفاة عدد من الأشخاص. وجاءت هذه التطورات في وقت عصيب للصين بسبب ما تعانيه قطاعات تصديرية صينية أخرى من متاعب، مثل قطاع تصدير الأسماك وفواكه البحر والطيور كنتيجة لاكتشاف المستوردين العالميين تلوثها بملوثات بحرية أو كنتيجة لإصابتها بأمراض معدية أو احتوائها على مضادات حيوية، أو لعدم اكتراث مصدريها بقواعد التخزين والنقل والصيد السليمة، وهو ما دعا الولايات المتحدة وكندا واليابان والاتحاد الأوروبي وروسيا إلى إلغاء صفقات توريد ضخمة واتخاذ إجراءات مشددة. والمعلوم -طبقاً للإحصائيات الدولية- أن إجمالي صادرات الصين من الأغذية في عام 2005 بلغ نحو 246 مليار دولار، أي أعلى ثماني مرات من الرقم المسجل في عام 1980 وهو 31 مليار دولار. من جانبها، حاولت الصين التخفيف من حدة هذه المشاكل بالإشارة إلى أن بضائعها المصدرة لا تزال أفضل من حيث الجودة والأمان من بضائع دول أخرى، ثم قامت بحملة إعلامية معاكسة اتهمت فيها بعض الدول- ولاسيما في الغرب- بالتجني والمبالغة من أجل الإضرار بسمعة الصين وموقعها التنافسي، وأتبعت ذلك بتوجيه تعليمات مشددة حذرت فيها وسائل الإعلام المحلية من التطرق إلى الأخبار الضارة بسمعة البلاد التصنيعية أو إعادة نشر الأخبار المتداولة في الصحافة الغربية وصحافة هونج كونج عن الموضوع. وكرد فعل على إلغاء بعض الدول لصفقات الاستيراد من الصين، قامت بكين في الأشهر الماضية بإلغاء صفقات لاستيراد اللحوم المجمدة من شركات عالمية أميركية وأسترالية، ورفضت استقبال 300 طن من المأكولات البحرية القادمة من أستراليا وخمس حاويات ضخمة من مياه "إيفيان" الفرنسية، بدعوى احتوائها على مواد عضوية ضارة. غير أن الصين، التي شكلت الصادرات والاستثمارات الأجنبية العنصر الرئيسي في صعودها الاقتصادي، استوعبت في النهاية أن ردود أفعالها تلك غير مفيدة، وأن مبدأ الاعتراف بالتقصير ومن ثم التحرك الجاد لإصلاح الخلل هو الخطوة الصحيحة للحفاظ على سمعة صناعاتها. وعليه سارعت في الأسابيع الأخيرة إلى اتخاذ جملة من الإجراءات الرقابية الهادفة إلى التزام أكبر بمعايير الجودة والسلامة العالمية، ومعاقبة المسؤولين عن الغش والفساد والتحايل مع إغلاق المصانع المسؤولة عن الإساءة إلى سمعة البلاد أو إلغاء تراخيصها، ممهدة العملية بالقول إن سرعة تنامي أسواق الصادرات الصينية وزيادة الطلب العالمي عليها جعلت بعض المصنعين يهملون أو يتساهلون مع بعض معايير الجودة والأمان. وقد تجلت هذه الإجراءات في إلغاء تراخيص نحو 300 مصنع صغير لإنتاج الألعاب، وتكثيف حملات التفتيش ولاسيما في إقليم غوانغدونغ المزدهر الذي يعتبر رئة البلاد الصناعية، وتحميل الحكومات المحلية التي تقع المصانع غير الملتزمة في نطاقها مسؤولية وقوع أخطاء أو عمليات غش بدلاً من تحميل المسؤولية لأجهزة الرقابة القومية، وفتح حوار جاد مع كبار الشركاء التجاريين حول اشتراطاتهم وملاحظاتهم. بقي أن نقول إن ما ينقذ سمعة الصناعة الصينية حقاً هو المزيد من الحريات الإعلامية والصحفية في صورة توفير فرص للنقد والنقاش الحر والتوعية، على اعتبار أن مثل هذا النقد والنقاش يكشف مبكراً مواطن الخلل والفساد ويستفز المعنيين لتدارك الأخطاء أولاً بأول. ذلك أن غياب تلك الحريات، معطوفة على الشره الاستهلاكي للمواطن لاقتناء الماركات العالمية من السلع، وشره المصدر لتحقيق أقصى الأرباح، وتغاضي بعض المسؤولين عن مخالفات المصنعين لوجود روابط أو مصالح خاصة تجمعهم مع هؤلاء، أدى إلى تراكم الأخطاء واستفحالها، ومعها انتعشت سوق الكماليات المقرصنة والمغشوشة لتصل إلى سوق الأدوية والأطعمة والمشروبات. وفي هذا السياق لاحظ أحد التقارير الميدانية، أن 90 بالمئة مما يروّج من البضائع في الأسواق المحلية في مواسم الشراء الكبرى كرأس السنة الصينية مثلاً هو من السلع المقلدة والمغشوشة، وأن أية سلعة عالمية تحظى بإقبال كبير سرعان ما يتم تقليدها كيفما كان وتطرح في الأسواق بنفس اسمها العالمي، لكن دون أدنى التزام بالمواصفات المعروفة لجهة الجودة والمتانة والأمان.