كانت كوكبةٌ من العلماء المسلمين من سائر المذاهب والأنحاء، والتي اجتمعت ضمن المؤتمر السنوي لمؤسسة الفكر الإسلامي (آل البيت) بالأردنّ قبل شهرين، قد أصدرت بياناً دعت فيه المسيحيين في العالم إلى حوارٍ مفتوحٍ بدون شروط. وتلا الدعوةَ نداء آخر وجَّهه إلى المسيحيين علماء ومفكرون مسلمون التقوا بأبوظبي، وأعلن عن الأمر نفسِه. أمّا الكنائس البروتستانتية والأرثوذكسية فقد أجابت على البيان والنداء بالإيجاب، وشجعت على المسارعة والتفعيل. في حين تريَّث الفاتيكان بعضَ الشيء، ثم قال الكاردينال توران مسؤول العلاقات مع الأديان بالفاتيكان (ووزير الخارجية السابق) في مقابلةٍ مع مجلة "لاكروا" (الإيمان) الكاثوليكية إنّ الاستجابة لدعوة المسلمين ضرورية، لكنّ الحوار الحقيقيَّ صعب. ذلك أنَّ المسلمين لا يتقبلون النقاش في المقدَّس لديهم وهو القرآن، فهم يعتبرونه كلامَ الله الموحى، غير القابل للمجادلة والمراجعة ألفاظاً ومضامين. ثم إنه إذا كان الحوار بدون شروط فينبغي سؤال المسلمين لماذا لا يكونُ من حقّ المسيحيين أن تكون لهم كنائس في السعودية مثلما للمسلمين مساجد في إيطاليا! ولو كان الأَمرُ أَمرَ جدالٍ ومباراةٍ في التجاذُب والانتصاريات، لكان بالوسع الإجابة بأنّ شأن المسلمين فيما يتعلق بالقرآن مثل شأن المسيحيين فيما يتعلق بالإنجيل، أي أنه في لقاءٍ بين المسيحيين والمسلمين ليس من المنطقي أن يُصرَّ المسلمون على مناقشة ما يعتبرونه تناقُضات في الأناجيل، وتاريخية الأناجيل، ومدى سلامة العقيدة المسيحية. وقد كان ذلك في الواقع هو السبب في أنّ كثيرين من كبار المسلمين عبر العقود الماضية، كانوا يُصرُّون في الحوار مع المسيحيين على عدم خوض نقاشٍ دينيٍ يمسُّ العقائد أو النصوص المقدَّسة لدى الطرفين، لأنَّ ذلك يحولُ دون استمرار الحوار. أمّا مسألة وجود أو عدم وجود كنائس في بعض الأماكن بديار المسلمين، فهو أمرٌ تاريخيٌّ، ويعتبره البعضُ من المسلمين أيضاً شأناً دينياً. لكنّ النقاش فيه والتشاوُر بشأنه ليس مُشكلاً ولا محرَّماً، والتوصُّلُ إلى مستقرٍ بشأنه أَمْرٌ ممكن. إنّ الكاردينال توران مسؤول الفاتيكان للعلاقات بين الأديان، والذي أجاب بهذه الإجابة على دعوات الحوار من جانب المسلمين لا يعرفُ فيما يظهر الجهود الهائلة المبذولة من الطرفين المسيحي والإسلامي طوالَ العقود الماضية للحوار والتقارُب والتوصُّل إلى أرضياتٍ مشتركة. فمنذ عام 1954 تصدر بياناتٌ مشتركةٌ عن اجتماعاتٍ بين المسلمين وممثلين لبعض الكنائس البروتستانتية أو الكاثوليكية. ومنذ مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965)، والذي أقرَّ اعترافاً شبه شاملٍ بالإسلام والمسلمين، تقدم التواصُلُ خطواتٍ واسعةَ وباندفاعٍ ومبادرةٍ من جانب المسيحية الكاثوليكية. ولأنّ الحوار يتأثر كثيراً لدى الطرفين بالمسائل والقضايا السياسية؛ فإنّ المسلمين قدّروا للفاتيكان الموقف الواضح من الاستيلاء الإسرائيلي على فلسطين، وخاصةٍ على الأماكن المقدَّسة لدى المسيحيين والمسلمين بالقدس. فالمعروف أنّ الفاتيكان ما أقام علاقاتٍ مع إسرائيل قبل عام 1994( أي قبل أوسلو). وكانت للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني مواقفُه المشهودة ضد الاجتياحات الإسرائيلية وضدَّ الهجمة الأميركية على العراق عامي 1991 و2003. ولا شكَّ أنّ كلام الكاردينال عن الحوار يعكسُ التردُّد الذي خالط مواقف الكنيسة الكاثوليكية في عهد البابا الحالي بنديكتوس السادس عشر، والذي أثارت محاضرته الشهيرة في 12 سبتمبر عام 2006 بجامعة "رغنسبورغ" بألمانيا ردودَ فعلٍ عنيفة من جانب المسلمين. وللبابا الحالي مواقف وكتاباتٌ معروفةٌ منذ كان رئيساً لمجمع الإيمان (وقبلها مطراناً لمدينة ميونيخ الألمانية) من الحجاب، ومن هوية أوروبا المسيحية وبالتالي استحالةُ ضم تركيا المسلمة إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. والمعروف أنَّ البابا عاد فزار تركيا قبل عام، وغيّر رأيه في دخولها إلى الاتّحاد. بيد أن ذلك ما أزال الشكوك والهواجس القديمة والمستجدة لدى الطرفين. فالواقعُ أنّ الكنيسة الكاثوليكية مؤسَّسةٌ شديدةُ المركزية اعتقاداً وقرارات، والتعددية بداخلها أو في توجهاتها محدودة الوجود والإمكانيات. ولذا فملاحظات الكاردينال تعبيرٌ عن موقفٍ جديدٍ ليس الرجل مسؤولاً بمفرده عنه- في حين أنّ الدين الإسلاميَّ لا مركزيةَ في جهازه الديني، ويمكن أن يكون لبعض أقطابه موقفٌ من هذا الأمر أو ذاك في العلاقة مع المسيحيين أو مع أهل الديانات الأُخرى، يناقضُ مواقف وآراء أقطابٍ مسلمين آخرين. وأُقرِّرُ ذلك هنا وفي هذا التعليق ليس لإدانة موقف الكاردينال أو الكنيسة، أو للقول إنّ المسلمين في موقفٍ أفضل من المسيحيين! ولا يمكنُ تخبئة الرأس في الرمال. فمنذ حوالي عقدين من السنين هناك انطباعٌ واسعُ الانتشار في العالم عن ظاهرتين لدى المسلمين: التشدُّد الديني في أوساطهم تجاه الآخر، والعنف تُجاهَهُ أيضاً. في التشدُّد يصعُبُ الإصغاءُ والاعترافُ المتبادلُ، وفي الحدّ الأدنى: تصعُبُ المبادرة. والعنفُ الذي أطلقه المتشددون المسلمون باسم الدين (وإن لم يكن ضدَّ الغير فقط بل ضدّ المسلمين الآخرين أيضاً!) لا يمكنُ الدفاعُ عنه أو تبريره. وبسبب الأجواء السائدة بين المسلمين ومن حولهم، ينبغي النظر إلى دعوة هذا العدد الكبير من العلماء المسلمين للحوار كمبادرةٍ تستحقّ الاعتبار. والاستجابةُ لها بملاحظاتٍ على طريقة الكاردينال توران لا تخدمُ الهدفَ الذي يسعى إليه عقلاءُ وكبارُ الديانتين العالميتين الأكبر. وقد صدق البروفسور الكاثوليكي الإصلاحي المعروف "هانس كينغ" عندما قال قبل قُرابة ثلاثة عقود: لا سلام في العالم بدون حوارٍ بين الأديان، ولا حوار بين الأديان دون حوارٍ بين المسيحية والإسلام! وهو ينصحُ اليوم بالتريث والصبر وتجنب ردود الفعل غير الملائمة، لأنّ القيادة الفاتيكانية تمر بحالة مراجعةٍ وانكماشٍ ومخاضٍٍ تجاه كل الأطراف! إنّ الذي ينبغي الاعترافُ به أنّ أهلَ الدينين فقدوا المبادرة في السنوات العشر الماضية. المسلمون بسبب التصدعات بداخلهم ذات الطابع الديني والفكري والسياسي. والمسيحيون الكاثوليك بسبب تغير القيادة، والتردد في مواجهة عواصف العولمة والولايات المتحدة أيضاً. والبروتستانت بسبب زخم اندفاعات الإنجيليين الجدد في أوساطهم. والأرثوذكس بسبب المخاضات عندهم بين القومية والدين. بيد أنّ فقدَ المبادرة، لا ينبغي أن يدفعنا للبدء من نقطة الصفر. فقد صارت للحوار أدبيات وممارسات وتاريخ، وصار لدى كلٍ منا تراكُمٌ مُعتبرٌ في شتى المناحي والمجالات. وللحوار مؤسَّساتُه ومعاهدُهُ لدى المسيحيين أكثر بكثير مما لدى المسلمين. وهكذا إذا ترددت الممارسة، فلا ينبغي أن نعتكف على أنفُسنا أو نيأس أو نلجأ إلى الاعتذاريات والجداليات أو نضع المسؤولية على عاتق الطرف الآخَر. فكما لا يخطُرُ ببال المسلمين اليوم أن يشترطوا في الحوار مع المسيحيين تقبُّلَ النقاش في أساسيات العقائد المسيحية، كذلك لا ينبغي أن يخطر ببال المسيحيين ما خطر ببال الكاردينال توران من ضرورة تقبُّل المسلمين التشكيك في كتابهم المقدَّس شرطاً للتحاور معهم! إنّ على المسلمين أن يجدّدوا التزامهم ودعوةَ كتابهم للتلاقي على الكلمة السواء، المُوصلة للتعارُف والاستباق في الخيرات. وعلى المسيحيين أن لا ينسوا فعل إيمان المحبة والتواصل، لتكون لنا حياةٌ، وتكونَ حياةً أفضل!