احتلّت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى إيران حيّزاً من الاهتمام والمتابعة ندر أن تحظى بهما زيارة أخرى. فمنذ أن تأكّد أن المرشد الأعلى الإيرانيّ علي خامنئي سيلتقي الرئيس الروسيّ، وأنه بهذا سيكون أوّل زعيم "غير مسلم" يلتقيه المرشد، فضلاً عن كونه أوّل زعيم روسيّ يزور طهران منذ زيارة ستالين في 1935، باتت أهميّة الزيارة مما لا يرقى إليه أدنى شكّ. والحدث هو ما يمكن "التأريخ" له بما سبقه، وما تلاه حتى الآن من تداعيات. فأما ما سبقه فتوجزه تطوّرات ثلاثة. - إعلان بوتين أنه بعد انتهاء ولايته الرئاسيّة الثانية سيبقى في الحياة السياسيّة. وهو ما شرحه العارفون بالشأن الروسيّ بوصفه إعلان رغبة في تسلّم رئاسة الحكومة، ومن ثمّ البقاء في السلطة كرجلها القويّ. - استقباله وفداً أميركيّاً رفيعاً على رأسه وزيرة الخارجيّة كوندوليزا رايس، وقد تكشّف اللقاء عن استمرار الخلاف بين وجهتي النظر الأميركيّة والروسيّة في عديد المسائل المشتركة وذات الطابع الاستراتيجيّ، لاسيّما الدرع الصاروخيّ. - لقاؤه الرئيس الفرنسيّ نيكولا ساركوزي الذي يُعدّ اليوم النجم الصاعد في سماء السياسة الأوروبيّة، وكذلك المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل التي يجمع بين بلدها وبين روسيا من قضايا متبادلة أكثر مما يجمع الأخيرة بأيّ بلد أوروبيّ غربيّ آخر. ولئن كان الاثنان أكثر انحيازاً إلى واشنطن من سلفيهما الرئيس جاك شيراك والمستشار غيرهارد شرودر، غير أنهما حريصان على إدامة "الحوار مع روسيا" وتطويره. بلغة أخرى، توجّه بوتين إلى طهران كي يقطف نجاحاً يضمن به استمرار دوره السياسيّ في بلده، فضلاً عن تحسين موقع بلاده واحترامها في نظر الولايات المتّحدة. غير أن الطريق إلى مثل هذا الإنجاز هو التموْضع في موقع قريب من إجماليّ الموقع الأوروبيّ المتشدّد حيال إيران والذي يحاذر، في الوقت نفسه، اللجوء إلى العنف، أو حصار الخنق، تبعاً لاعتبارات عدّة استراتيجيّة وماليّة. فالقادة الأوروبيّون، وأوضحهم في هذا المجال ساركوزي، لا يمانعون في تهديد آيات الله بالضربة العسكريّة علَّ التهديد يدفعهم إلى تنازلات تلغي الحاجة إلى تلك الضربة. وفي محاولته التموضع داخل الموقف الإجمالي لأوروبا الغربيّة، يعمل بوتين على إحراز هدفين يؤديان معاً إلى تقوية بقائه في الصدارة السياسيّة لبلده، وإبقاء بلده في الصدارة السياسيّة للعالم: من جهة، إغراء الأوروبيّين بإمكان الحفاظ على موقع مستقل نسبيّاً عن الموقع الأميركيّ، ومن جهة أخرى، التلويح للولايات المتّحدة بأن في الوسع انتزاع تسوية مهمّة من طهران تعود بالنفع، ومن موقع قوّة لموسكو، على العلاقات الأميركيّة- الروسيّة. وهناك نظريّة متكاملة يستند إليها بوتين في تحرّكه هذا، وهو ما يمكن الوقوع عليه في عدد مبعثر من المواقف والتصرّفات، بحيث نستطيع، على هذا النحو، أن نقرأ القراءة الروسيّة في الشكل التالي: أوّلاً، ليست المسألة فعلاً مسألة سلاح نوويّ، حتى لو وصل الأمر بالرئيس الأميركيّ جورج بوش إلى التهديد بـ"حرب عالميّة ثالثة" إذا ما امتلكت طهران هذا السلاح. فالتهديد البوشيّ، حسب هذه القراءة، قابل للاندراج في لعبة الشدّ والإرخاء بين واشنطن وموسكو، والذي كان من تعبيراته الأخرى إقرار الدول الخمس لحوض قزوين (روسيا وإيران وأذربيجان وكازاخستان وتركمانستان) عدم استخدام أراضي بلدانهم في أيّ اعتداء على إحدى هذه الدول. ذاك أن أكثر التقديرات تفاؤلاً في شأن سرعة إيران يذهب إلى ثلاث سنوات مدّةً زمنيّة لا تستطيع طهران قبلها مباشرة الاشتغال على إنتاج سلاح نوويّ. ثم إن روسيا، التي تعتبر إيران (وتركيا) جنوبها المباشر، أكثر خوفاً من الولايات المتّحدة حيال استحواذ آيات الله على سلاح كهذا... فكيف وأننا نعيش في زمن يتّسم بقابلية شيوع أسلحة الدمار كما بصعود الهويّات الدينيّة والإثنيّة وفي عدادها الهويّة الشيشانيّة المسلمة؟ ثانياً، أن السلاح النووي ليس أكثر من ذريعة للموضوع الفعليّ الذي يمثله النفوذ الإيرانيّ وخطره المتمادي على الغرب، لا على الولايات المتّحدة وحدها. فلئن بات من البديهيّ أن حربي أفغانستان والعراق أفادتا طهران بالدرجة الأولى، لأنهما أزاحتا نظامين عدوّين لها في جوارها، فمن البديهيّ أيضاً أن تثبيت الموقع الإيراني في العراق وتوسيعه يهدّد الخليج كلّه بتوسع النفوذ الإيراني. وتطوّر كهذا لا يجعل الجنود الأميركيّين أسرى احتياطيّين لدى طهران فحسب، بل يجعل آيات الله مرجع التقرير الأوّل، إن لم يكن الأوحد، لسعر برميل النفط الخام. ثالثاً، أن الهاجس الأميركيّ حيال النفوذ الإيراني يتّصل أساساً بالنظرة الأحاديّة إلى العالم التي طغت على واشنطن مع انتهاء الحرب الباردة، وخصوصاً بعد جريمة 11 سبتمبر 2001. وهو أمر قابل للمعالجة الموضوعيّة شريطة أن تقبل الولايات المتّحدة مبدأ الشراكة مع قوى دوليّة وإقليمية أخرى ترضى بموقع ضعيف في الشراكة تلك. يُستدلّ على هذا في نجاح الجهد الجماعيّ (الذي شاركت فيه روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبيّة، فضلاً عن الولايات المتّحدة) لتذليل الإشكال النوويّ الكوريّ الشماليّ. لا بل حتى مع إيران نفسها، نمّ التعاون الاميركيّ- الإيراني في الحرب الأفغانيّة، وهو ما سبق خطاب "محور الشرّ" الشهير والكارثيّ النتائج، عن وجود آفاق للتقارب ممكنة ومفتوحة. وقصارى القول، مما يمكن استقراؤه موقفاً روسيّاً، أن صيغة أمن جماعيّ تلعب فيها موسكو دور الوسيط بين "غرب" و"شرق" هي وحدها ما يطمئن إيران إلى نظامها ومستقبله مثلما يطمئن الغرب حيال النوايا الإيرانية، كائناً ما كان ميدانها. ولئن كانت روسيا -"الغربيّة" جزئيّاً، "الشرقيّة" جزئيّاً- الطرف الأشدّ تأهيلاً للقيام بمهمّة الجسر تلك، فإن تصوّراً كهذا هو وحده الكفيل باحتواء الوضع العراقيّ الذي يخشاه الروس مثلما تخشاه سائر القوى الغربيّة. وفقط تحت عنوان كهذا يمكن توفير مناخات هادئة لبتّ مسائل تبدأ بالانسحاب الأميركيّ من العراق حين يحين أوانه، وقد لا تنتهي بتناول صراع الشرق الأوسط عشيّة "مؤتمر الخريف" الموعود، مروراً ربما بلبنان ووضعه المرشّح للاشتعال. وغنيّ عن القول إن التوتّر الجديد بين تركيا وأكراد العراق، ومن ثم العراق ككلّ، يشي بقابليّة المنطقة كلّها للالتهاب، وحاجتها إلى وضع ميكانيزم على شيء من الثبات لفضِّ نزاعاتها. في المقابل، لابد أن يكون بوتين، استكمالاً لشروط نجاحه، قد أوصل إلى القيادة الإيرانية رسالة مزدوجة تنطوي على الطمأنة على مستقبل النظام والإقرار بدور ما لطهران وبحصّة لها في جوارها، خصوصاً العراقيّ، شريطة أن ينضبط هذان الدور والحصّة بالصيغة الإجماعية التي يكون "المجتمع الدوليّ" قد تواضع عليها وتعاقد. وربما من هذا القبيل كان إعلان بوتين عن تفعيل محطّة بوشهر للطاقة الذريّة التي كان تفعيلها موضوع سوء تفاهم "ماليّ" بين البلدين. لكن الرسالة المفترضة لابدّ أن تنطوي، من جهة أخرى، على التلويح بالويل والثبور والخراب العظيم في حال قرّرت إيران ألاّ تتعاون. فبوتين الذي أعلن معارضته توجيه ضربة عسكريّة إلى طهران، لا يستطيع أن يضمن إلى ما لا نهاية عدم وقوع ضربة كهذه لا تبقي ولا تذر. وما بعد الزيارة يمكن أن يكون مصداقاً للتقدير هذا: فسريعاً ما التقى بوتين، بُعيد عودته من طهران، بإيهود أولمرت وطمأنه من جهة الاحتمال النوويّ الإيرانيّ الذي تعارضه روسيا، كما أكّد له، فوق هذا، أن موسكو ملتزمة ضمان أمن إسرائيل. وأهمّ من ذلك تفاعلات الحياة السياسيّة في طهران نفسها والتي لابدّ أنها تحرّكت على إيقاع الزيارة الروسيّة. فبعدما صرّح كبير المفاوضين الإيرانيّين (السابق) علي لاريجاني بأن بوتين تقدّم باقتراح لكسر الجمود في موضوع البرنامج النوويّ، نفى الرئيس أحمدي نجاد وجود مثل هذا الاقتراح. وبعد هذه المساجلة غير المباشرة، حلّ نائب وزير الخارجيّة سعيد جليلي محلّ لاريجاني، فيما نقلت وكالة الأنباء الإيرانيّة الرسميّة عن الناطق باسم الحكومة، غلام حسين إلهام، قوله إن لاريجاني استقال عدّة مرّات ولم تُقبل استقالته إلا أخيراً! يبقى أن القراءة الروسيّة المفترضة هذه تواجهها تحديات ثلاثة: فهل يثق الغرب ببوتين لكي يقرّ له، ولو بعد تصعيد تفاوضيّ متبادل، بدور الوسيط؟ وهل تعطيه طهران ما يريده، بمعزل عن تهديدات بوش التي قد يكون المقصود فيها دور بوتين لا الموقف من إيران؟ وهذا فضلاً عن السؤال المركزيّ: هل الموضوع فعلاً دور إيران لا السلاح النوويّ؟