من المبادئ الدستورية المعروفة، ومن مكتسبات ثورات الشعوب مثل الثورة الفرنسية، ومن رؤى الفلاسفة مثل مونتسكيو، مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية. ويفضل بعض المحدَثين استعمال لفظ "التمييز" بين السلطات بدلاً من لفظ "الفصل" اعترافاً بالواقع. إذ أثبتت التجارب والنظم السياسية المختلفة، حتى الليبرالية منها، استحالة الفصل التام بين هذه السلطات الثلاث. ففي لحظات التحول الاجتماعي والسياسي وظهور زعيم يجسد ثورة المجتمع تكون الأولوية فيه للسلطة التنفيذية على السلطتين الأخريين مثل ديجول في فرنسا أثناء تحريرها من الاحتلال النازي وتنظيم المقاومة في الحرب العالمية الثانية، ومثل عبدالناصر في الستينات عندما جسد بشخصه مبادئ الثورة المصرية تشريعاً وتنفيذاً وقضاءً بمحاكمة رجال العهد السابق والمعارضين السياسيين من "الإخوان" والشيوعيين. ومثل معظم زعماء العالم الثالث منذ باندونج وحتى انتهاء عصر الزعامات التاريخية، نهرو، وتيتو، وسوكارنو، ونكروما، وسيكوتوري، وكنياتا، ومازال كاسترو وموجابي مستمرين من روح العصر الجميل. وتؤكد كل النظم السياسية بصرف النظر عن توجهها الأيديولوجي، اشتراكياً كان أو رأسمالياً، وطنياً أو قومياً، على أولوية السلطة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، واستقلالها عنهما لأنها تمثل العدل. والعدل أساس الملك. وهي التي تفصل بينهما في حالة النزاع وضياع حقوق المواطن بين قانون في صفه وتنفيذ ضده. لذلك يلجأ المواطنون إلى القضاء في المحكمة الإدارية لأخذ حقوقهم. بل ويستطيع المواطن مقاضاة رئيس السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية، باعتباره المسؤول الأول عن ضياع الحقوق. فوظيفة القضاء ليست فقط حل النزاعات بين المواطنين حول عمليات البيع والشراء والزواج والطلاق، والمِلكية واللاملكية بل أيضاً بين الحاكم والمحكوم. وقد جاء وقت في تاريخ بني إسرائيل غاب فيه الملوك، وانقطع فيه الأنبياء فحكم القضاة. إذ يجمع القاضي بين قوة الملك وعدل الشريعة. وتاريخ القضاء في الإسلام أشهر من أن يُستدعى. فطالما حكم القاضي للمحكوم ضد الحاكم، وللفقير ضد الغني، وللمقهور ضد القاهر. فالكل سواء أمام القانون. لا فرق بين سلطان ورعية، وشريف وعامي. والقاضي مشهود له بالورع لأنه إنما يقضي بجمرة من نار. وطالما نصر الذمِّي على المسلم، والشخص العادي على ابن الأكرمين طبقاً للقصاص. وتاريخ القضاء في مصر مشهود له بدفاعه عن استقلاله ضد مذبحة القضاة، وميل بعضهم إلى أهواء الحكام أو إلى بعض التيارات السلفية المتشددة فيما يتعلق بقضايا الرأي. وما تقوم به نوادي القضاة حالياً في الدفاع عن القانون ضد ضغوط السلطة التنفيذية يشهد له الجميع في الداخل والخارج. بل إن قاضي القضاة في الفقه هو الذي يقود ثورة الناس ضد الحاكم الظالم إن لم يستمع إلى النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم ينفذ أحكام القضاء. يُعين ولا يُعزل. وتأتي السلطة التشريعية في المرتبة الثانية، سلطة سن القوانين ووضع الدساتير وتنظيم علاقات الناس مع بعضهم بعضاً، وبينهم وبين السلطة التنفيذية. والسؤال هو: لصالح من يتم ذلك؟ ما هي هذه الهيئة المنوط بها سن القوانين أو تعديلها؟ وهل ترعى الصالح العام أم الصالح الخاص؟ ألا تُفصل القوانين طبقاً لرغبة الحاكم فيما يسمى "ترْزية القوانين" في قضايا النشر أو إلغاء قانون الطوارئ ووضع قانون مكافحة الإرهاب، والمسمى واحد، بصرف النظر عن اختلاف الأسماء، وتعديل قوانين الجامعات ولوائح الطلاب من أجل مزيد من سيطرة أجهزة الأمن على المؤسسات التعليمية؟ لذلك يطالب البعض بالقرآن كدستور لأنه لا يظلم، وبتطبيق الشريعة الإسلامية لأنها تقوم على العدل. ويطالب رجال القانون باستقلال السلطة التشريعية مثل استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية. ثم تأتي السلطة التنفيذية في نهاية المطاف. وهي التي تنفذ القانون ولا تعصيه أو تعتدي عليه. وهي التي تلتزم بأحكام القضاء وتنفذها بالقوة. وتتمثل أساساً في أجهزة الشرطة والأمن والدفاع. وما يحدث بالفعل هو استعمال الشرطة أحياناً القوة وحدها لتنفيذ رغبات السلطة التنفيذية مع مخالفات الإجراء القانونية. تعذب المواطنين في الأقسام وفي المعتقلات والسجون لاستدراجهم إلى اعترافات كاذبة. والمعتقل السياسي له الأولوية على المعتقل الجنائي مرتكب الجريمة. وكثيراً ما يتم تلفيق التهم للقبض على نشطاء المعارضة السياسية، وكثيراً ما عبر الأدباء والفنانون عن مفاسد بعض الشرطة طبقاً للمثل الشعبي "حاميها حراميها". وتقام المحاكم العسكرية للخصوم السياسيين باسم قوانين الطوارئ التي تجيز الاعتقال لمدة أسبوعين، وتجديد الاعتقال لمدة ستة شهور دون تحقيق أو جريمة أو محاكمة. رئيس السلطة التنفيذية، هو رئيس الدولة، بيده كل شيء. فهو رئيس الجيش والشرطة والحزب وكل الأجهزة القضائية والتشريعية والتنفيذية. السلطة التنفيذية هي التي تقرر. والسلطة التشريعية هي التي تصوغ القوانين. والسلطة القضائية فرع من السلطة التنفيذية. والأهم من ذلك كله "السلطة الرابعة" منذ ثورة المعلومات وانتشار الصحف والقنوات الفضائية والأجهزة المرئية والمسموعة وشبكات المعلومات والمواقع الإليكترونية. هي سلطة الرأي العام والكشف عن الحقيقة وتبصير الناس بحقوقهم. هي سلطة الخبر الصحيح والرأي والرأي الآخر. وهو ما سماه القدماء سلطة العلماء والفقهاء. سلطة العلماء لها الأولوية على السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية. هي السلطة الأولى، سلطة الرأي العام الذي تحاول "هيئة المفوضين" التعرف عليه. هي سلطة الجهر بالحق وكشف الكذب. ومن ثم فإن إلقاء قبض السلطة التنفيذية على رؤساء تحرير بعض من صحف المعارضة وتقديمهم إلى السلطة القضائية قضاء على الفصل بين السلطات، وعلى أولوية السلطة الرابعة على السلطات الثلاث الأخرى. إذ يقوم الصحفي اليوم بما كان يقوم به العالِم والفقيه والإمام والمفتي بالأمس، الإعلان عن الحق. ولا مرجع له إلا صحة الخبر وضميره الحي. والرد على الخبر الكاذب بالخبر الصادق، وليس بالاعتقال، ومواجهة الرأي بالرأي وليس بالحبس. تسيء السلطة التنفيذية وهي السلطة الأخيرة استعمال سلطتها، وتطعن في السلطة الرابعة وهي السلطة الأولى، قلباً للموازين واتباعاً لسياسة الهرم المقلوب. دور السلطة الرابعة هو الكشف عن الحقيقة التي يحكم بها القاضي ويشرع بها المُشرِّع، وتنفذها أجهزة الأمن. السلطة الرابعة هي السلطة الأولى في المجتمع، سلطة الرأي العام، والوعي اليقظ، والتوعية بالحقوق، ومراقبة الحكام، وتحريك الشعوب. كان يقوم بها خطيب المسجد والإمام في تراثنا القديم قبل أن يلجأ المختصم إلى القاضي. لا يفتي إلا ابتغاء الحق، وليس إرضاء لرغبة السلطان. وأن أعظم شهادة قول كلمة حق في وجه سلطان جائر. وقد انهار حكم عاد وثمود لأنه اعتمد على القوة وحدها.