لقد تزايدت حدة الخطاب السياسي الصادر من العاصمتين الأميركية والإيرانية خلال الأسبوعين الماضيين، خاصة ما اتصل منه بالطموحات النووية الإيرانية. ففي السابع عشر من شهر أكتوبر الجاري، صدر عن الرئيس بوش قوله في مؤتمر صحفي: "إذا كنتم تهتمون بتجنب نشوب حرب عالمية ثالثة، فإن عليكم الاهتمام بمنع إيران من الحصول على المعرفة التي تمكنها من صنع أسلحتها النووية". وبعد أربعة أيام فحسب من ذلك التاريخ، أي في الحادي والعشرين من الشهر الجاري، كان ديك تشيني نائب الرئيس بوش، أكثر وضوحاً وتصريحاً في حديثه عن الأمر نفسه أثناء مؤتمر صحفي له عقد في ولاية فرجينيا، إذ قال: "إن على النظام الإيراني أن يدرك، فيما لو أصر على المضي في نهجه الحالي، أن المجتمع الدولي مهيأ لرميه بوابل من العواقب الوخيمة على هذا السلوك. ذلك أن الولايات المتحدة تضم صوتها وموقفها إلى أصوات ومواقف دول عديدة، تشترك جميعها في توجيه رسالة واضحة المعنى إلى قادة طهران: نحن لن نسمح لكم بتطوير الأسلحة النووية". والواضح هنا أن تشيني إنما كان يلمح بكلماته هذه إلى تلك التصريحات القوية الصادرة عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بشأن البرنامج النووي الإيراني، وكذلك عن وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير، إضافة إلى التعليقات الصارمة التي وردت على لسان رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون. ولا يقتصر هذا الموقف الحازم من البرنامج النووي الإيراني على المسؤولين المذكورين أعلاه فحسب، وإنما شمل كذلك جميع المرشحين الرئاسيين "الجمهوريين" الذين نسب إليهم الكثير من التصريحات الحازمة، والتي أجمعوا فيها على أهمية بقاء الخيار العسكري خياراً مفتوحاً ومحتملاً في التصدي لإيران، بصرف النظر عن مدى التقدم الذي يمكن إحرازه في مجال العمل الدبلوماسي. وفي الجانب الآخر، أي على صعيد المرشحين الرئاسيين "الديمقراطيين"، فقد سادت نبرة مشابهة وإن كانت أقل حدة ووعيداً وتهديداً، بالنظر إلى تفضيل هؤلاء للتوصل إلى تسوية ما للأزمة الإيرانية على أساس سلمي تفاوضي. غير أن هذا الموقف لم ينف استثناء أو استبعاد أي من المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين أنفسهم لخيار العمل العسكري في حال فشلت الجهود الدبلوماسية مع قيادة طهران. وعلى سبيل المثال، فقد ورد في مقال نشر للسيناتور هيلاري كلينتون في العدد الأخير من مجلة "الشؤون الخارجية" قولها: "يجب ألا نسمح لإيران بالحصول على الأسلحة النووية أو تطويرها تحت كل الظروف والأحوال. وفيما لو لم تف إيران بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها، إلى جانب الالتزامات التي فرضها عليها المجتمع الدولي، فإن عليها أن تدرك أن كل الخيارات تظل مطروحة على طاولة الأعمال". أما في طهران نفسها، فقد أسهمت كل الأحداث والتطورات التي وقعت هناك مؤخراً، في هذا التصعيد. ففي السابع والعشرين من أكتوبر الجاري، زارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أول زيارة لرئيس روسي لها منذ حضور الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين لقمة طهران التي عقدت عام 1943، وهي قمة شارك فيها الى جانب ستالين كل من نظيره الأميركي روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، بهدف وضع حد للحرب الدائرة مع ألمانيا وقتئذ. وقد انتهى اللقاء الذي عقد بين بوتين والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد إلى الإعلان عن بيان مشترك أكد على "تقارب موقف الرئيسين في كافة القضايا الرئيسية، إلى جانب تعاونهما على إنشاء نظام دولي أكثر عدلاً". وفوق ذلك، وعلى نحو منفرد، وجه بوتين تحذيراً للغرب من شن أي هجمات تستهدف البرنامج النووي الإيراني. أما الإعلان الذي ذاع مؤخراً من داخل طهران بشأن استبدال علي لاريجاني، رئيس المفاوضين النوويين بخلفه سعيد جليلي الذي طالما نظر إليه الكثيرون داخل إيران وخارجها على أنه أكثر تشدداً وقرباً من الرئيس نجاد، فإنه يضيف عاملاً جديداً إلى عنصر القلق والتوتر إزاء المسار الذي تمضي إليه العلاقة بين الغرب وطهران، لاسيما أن هذا الإعلان قد ضاعف بالفعل احتمال وقوع مواجهة بدت أكثر حتمية الآن بين الجانبين، مقارنة بأي وقت مضى من تاريخ هذا الشد والتوتر. فمما يحسب لصالح لاريجاني أنه كان يحظى باحترام واسع في أوساط الأوروبيين بصفة خاصة، مكنه من إقامة علاقة وطيدة وطيبة مع خافير سولانا، مندوب الاتحاد الأوروبي السامي للسياسات الخارجية والأمنية. وعلى رغم الاتفاق الذي ساد بين الأوروبيين فيما يتعلق بتشدده في أداء مهمته التفاوضية عن إيران، إلا أنه عد في الوقت نفسه شخصية براجماتية عملية تهمها خدمة المصالح العليا الواقعية للجمهورية الإسلامية. وبالنظر إلى هذا التصعيد الأخير على الجبهة الإيرانية، فلا بد من القول إن الجهود التي بذلتها القوات الأميركية المرابطة في العراق، قد أثمرت بعض التقدم والنجاح في الفترة الأخيرة، غير أن العواقب السالبة المحتملة لتوجيه أي ضربة عسكرية لإيران، تفوق كثيراً أي نجاح حققته هذه القوات مؤخراً في بيت الجوار العراقي. ويصح هذا التوقع على نحو خاص، في وقت بلغت فيه أسعار النفط العالمي أعلى أرقامها على الإطلاق، بينما لا تزال واشنطن تواصل جهودها من أجل الحيلولة دون حدوث توغل عسكري تركي واسع النطاق في الجزء الشمالي من العراق، في إطار المواجهة الدائرة حالياً بين أنقرة ومقاتلي "حزب العمال" الكردستاني الذين تصفهم بالإرهابيين. وفوق هذه التعقيدات جميعاً، فقد أعلنت حكومة نوري المالكي في بغداد، عن موقفها الرافض لاستخدام القوة أو توجيه أي ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية. والخطر الكامن وراء حدة النبرة السياسية المتبادلة حالياً بين واشنطن وطهران، أنه يجعل من الصعوبة بمكان، احتمال تقديم أي طرف منهما ما يلزم من التنازلات تحت غطاء سياسي يتيح لهما إعادة تقييم موقفيهما، دون أن يريق أحدهما ماء وجهه أمام الآخر. وربما كان في وسع موسكو توفير مظلة سياسية لتنازلات كهذه في العاصمتين المتواجهتين، فيما لو شاءت إدارة بوتين ذلك. غير أن المرجح أن موسكو لن تبدي أي بادرة منها للقيام بدور إيجابي في الحد من هذا التوتر والدفع بطرفيه نحو تقديم التنازلات، قبل أن ترى بوادر إيجابية من ناحية الولايات المتحدة الأميركية إزاء ما يشكل هاجساً أمنياً لموسكو، لاسيما توسعات حلف "الناتو" في منطقة شرق أوروبا، واعتزام إدارة بوش نشر نظم دفاع صاروخية باليستية لها في كل من بولندا وجمهورية التشيك. بيد أنه لا يرجح تراجع إدارة بوش خطوة واحدة عن سياساتها الأمنية هذه، خاصة أمام إدارة بوتين الحالية.