نستعرض هنا كتاب "وخزات الألم السرمدي: هاييتي من الثورة إلى اختطاف الرئيس"، صفحة أخرى من صفحات الازدواجية في السياسة الخارجية الأميركية، خاصة في ظل إدارة بوش الحالية. والنموذج هذه المرة ليس له صلة بمنطقة الشرق الأوسط، وإنما ببيت الجوار القريب في الجزء الجنوبي من القارة الأميركية نفسها. فبعد حوالي عام تقريباً من غزو الإدارة الحالية للعراق، بذريعة نشر الديمقراطية وقيم الحرية، أرغم الرئيس الهاييتي المنتخب ديمقراطياً على مغادرة بلاده، ثم جرى اختطافه هو وزوجته على أيدي جنود أميركيين وأقلعت بهما طائرة لتحط بهما في جمهورية إفريقيا الوسطى. ورغم إنكار الحكومة الأميركية رسمياً تنحيتها لأرستيد بالقوة، فالواضح أن حلم تلك الجزيرة الصغيرة وصراعها من أجل تقرير المصير، لم يسحقا على يدي المؤسسة العسكرية الهاييتية نفسها كما تدعي واشنطن. وفي هذا الكتاب، يكشف النقاب الكاتب والمدافع عن العدالة الاجتماعية- "راندال روبنسون"- عن هذه الصفحة المأساوية والبطولية في ذات الوقت، من صفحات التاريخ الهاييتي. وفيما يذكر فقد أرغم سكان هذه الجزيرة ذات يوم على هجرة أوطانهم الأفريقية الأصلية تحت وطأة القيود والسلاسل ليعبروا مياه المحيط الأطلسي وتحط بهم السفن في ذلك الجزء الجنوبي من القارة الأميركية. وإذا كان المؤلف قد سجل الوجه المؤلم من تجربة الشعب الهاييتي، فهو لم يفت عليه تدوين ما هو إيجابي فيها من بطولة وثورة شعبية مؤزرة بالنجاح ضد فرنسا، وما تبعها ذلك من تمرد وثورة ضد الهيمنة الأجنبية طوال قرنين من الزمن. ومهما قيل عن أرستيد وأياً تكن الانتقادات الموجهة إلى نظام حكمه، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن شعبه الهاييتي هو الذي انتخبه ديمقراطياً. كما لا تنفي الانتقادات الموجهة إلى نظام أرستيد حقيقة ارتباط مصيره الشخصي وما آل إليه من اختطاف وتشريد، بمصير الشعب الهاييتي نفسه، من زاوية التطلع المستمر لهذا الشعب نحو الانعتاق من ربقة الهيمنة الخارجية وانتزاع حقه في تقرير مصيره. ولذلك فإن تنحيته واختطافه على ذلك النحو المهين، إنما يعكس إذلال خاطفيه لشعب كامل. وكان قد سبقت تنحية أرستيد واختطافه، مواجهته لتمرد عسكري في وقت مبكر من شهر فبراير 2004، اندلع في الجزء الشمالي من الجزيرة. وكان كولن باول ـ وزير الخارجية الأميركية حينئذ ـ هو من وصف قادة ذلك التمرد العسكري بكونهم "سفاحين ومجرمين" لأن من بينهم قادة سابقين للجيش الهاييتي المحلول، وقد عرف هؤلاء بارتكابهم لأفظع جرائم الإعدام عبر فرق الموت التي شكلوها خلال الفترة بين عامي 1991 و1994. أما سيناريو الاختطاف نفسه فقد حدث على النحو التالي: كان التمرد العسكري المناوئ لأرستيد قد اكتسح سريعاً الجزء الشمالي من الجزيرة صوب الجنوب، مستفيداً في ذلك من استخدامه لبنادق M-16 و M-60 الأميركية الصنع، وكذلك من ضعف قدرات الشرطة التي تأثرت كثيراً بالأزمات المالية إلى جانب النقص في الأسلحة بسبب المقاطعة المالية والعسكرية التي تفرضها الولايات المتحدة على الجزيرة، تحت ذرائع تزوير الانتخابات الرئاسية فيها. وفي مواجهة هذا التمرد أذعن الرئيس أرستيد لمقترحات المجتمع الدولي المقدمة بشأن التسوية السياسية للنزاع مع المتمردين، تفادياً لعودة ذات النظام العسكري السابق للبلاد، وهو النظام الذي غرس الخوف والرعب، ومارس أبشع انتهاكات حقوق الإنسان بحق الشعب الهاييتي. وفي السادس والعشرين هدد المتمردون باجتياح القصر الرئاسي وبالاعتداء على حياة الرئيس شخصياً. وفي الوقت الذي رفضت فيه المعارضة المدنية لنظام أرستيد الانصياع للمقترحات الدولية المقدمة لحل الأزمة، بما فيها التنحي الطوعي للرئيس عن السلطة، أعلنت الخارجية الأميركية على لسان وزير خارجيتها باول، عن امتناع واشنطن عن إرسال أي تعزيزات عسكرية لحماية حكومة هاييتي المنتخبة ديمقراطياً قبل التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة. وبعد يومين فحسب من ذلك التاريخ، أبلغت شركة "ستيل فاودنيشن" الأمنية الأميركية الخاصة التي تتولى مهام حماية الرئيس أرستيد بموجب تعاقد خاص مبرم معه، عن قرار الحكومة الأميركية بمنعها من استدعاء أي جنود أمنيين إضافيين لحماية الرئيس. وفي اليوم نفسه أبلغه دبلوماسيون أميركيون أنه إذا ما أصر على البقاء في قصره الرئاسي، فإن حكومة بلادهم لن تستطيع تقديم أي مساعدة له. ونقلوا له توقعهم بأن يلقى هو وزوجته ومؤيدوه الموجودون داخل القصر مصرعهم على يد المتمردين. وفي ساعة متأخرة من ليلة اليوم نفسه، التقى به لويس مورينو، القائم بالأعمال الأميركية وأبلغه أنه سوف يكون في وسع الولايات المتحدة توفير الحماية اللازمة له، إذا ما قرر مغادرة القصر في تلك اللحظة، شريطة أن يستلم منه خطاب استقالة من منصبه الرئاسي. وفي ساعة مبكرة من صباح التاسع والعشرين من فبراير صعد أرستيد وزوجته برفقة بعض أفراد أسرته إلى متن طائرة أميركية خاصة، بعد تسليمه خطاب الاستقالة المذكور، مصحوباً بتعهد آخر بعدم إثارة أي أسئلة عن الجهة التي سوف ينقل إليها. وما كان أرستيد يدرك أن تلك الرحلة ستنتهي به من أميركا اللاتينية إلى قلب القارة الأفريقية! فهل من انتهاك صارخ للقانون الدولي أكثر من هذه القرصنة الحكومية للقوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم؟ وهل من حديث ممكن عن قيام الحكومة ذاتها بنشر الديمقراطية وقيم الحرية، سواء في العراق أو غيره؟ عبد الجبار عبدالله الكتاب: وخزات الألم السرمدي: هاييتي من الثورة إلى اختطاف الرئيس المؤلف: راندال روبنسون الناشر: "بيزك سيفيتاز" للكتب تاريخ النشر: 2007