كتبتُ قبل نحو عامين بحثاً، بعنوان: "تحولات هيكلية في الدول العربية: تزايد شرعية الدولة وتراجع دور الحكومات"، للمشاركة به في مؤتمر بعنوان: "التحولات الراهنة ودورها المحتمل في إحداث التغيير في العالم العربي"، وصدر البحث لاحقاً مع أوراق المؤتمر في كتاب. وقدمت تلك الورقة تصوراً متفائلاً في ثلاثة مجالات رئيسيّة في واقعنا المعاصر، مع التشاؤم في مجال رابع. وأجد باستعراض التطورات التي حصلت في منطقتنا العربية في العامين الماضيين، أنّه لم يعد ممكناً الاستمرار في التفاؤل. التشاؤم كان على صعيد الانقسام الطائفي في المنطقة، ولا يوجد ما يدفع الآن للتخلي عن هذا التشاؤم. أمّا التفاؤل الذي أحتفظ به، فيتعلق بالجانب الاقتصادي في أكثر من دولة عربية، وخصوصاً دول الخليج العربية، فباعتقادي، أنّ الخصخصة في أكثر من دولة، تؤدي إلى نوع من توزيع الثروة، (رغم أنّها تحمل معاني ونتائج سلبية في دول أخرى)، وتعطي من خلال الهيئات العامة للشركات المساهمة، نوعاً من الرقابة الشعبية على كثير من القطاعات والقوى الاقتصادية التي كانت حكراً على الدولة سابقاً، ويتراجع بالتالي نمط الدولة الرعويّة، كما أنّ أنماط الاستثمارات الخليجية الخارجية الراهنة تدفع للتفاؤل. أمّا في الإعلام، فقد أبديت تفاؤلاً، بأنّ عصر الفضائيات يؤدي إلى تراجع سيطرة الدولة، ويوفر مساحة من حرية التعبير، وذلك لأنّ كثيراً من الفضائيات تتبع القطاع الخاص، فهي أقل خضوعاً لحسابات الحكومات والقوى المحافظة. ولأنّ سعي الفضائيات لاستقطاب أكبر جمهور ممكن، يفرض عليها طرح قضايا قومية واسعة تهم أكبر عدد ممكن، فبدا أنّ هناك مجالاً عربياً عاماً يتشكل فيه نوع من التفكير والتفاعل العربيين المشتركين. وما حدث لاحقاً ثلاثة أمور رئيسيّة، أولها تزايد الفضائيات وتشتت الجمهور حولها، فبرزت قنوات تُعنى بجمهور ضيِّق، أو ما يعرف في عالم التسويق، باسم niche market، أي تقسيم السوق وتقديم سلعة محددة لجمهور محدد لديه رغبات واحتياجات خاصة، فبرزت فضائيات محليّة تعالج القضايا الحياتية والخدميّة اليومية وتغطي أسواق الأسهم وما إلى ذلك، وبرزت فضائيات تقدّم الشعوذة والدجل، وقنوات طائفية، وقنوات دينية، وأخرى تدَّعي التديُّن، وظهرت فضائيات الأغاني، والشباب، والمسابقات، والمرأة، والتسوق، والعقارات، و...إلخ. وبروز هذه القنوات ليس خطأً من حيث المبدأ، إلا أنّه بالمحصِّلة أنهى إلى حد كبير فكرة الإعلام العربي العام (Pan Arab). الأمر الثاني الذي برز، هو تمكن أو قرار الدول ممارسة ضبط إضافي على القنوات التي تتبعها أو يمتلكها مواطنوها، فأصبح اصطفاف القنوات الإخبارية العربية الرئيسية، مثلاً، مع سياسات الدول التي تتبعها أكثر وضوحاً، وأصبح هامش حريات القنوات محدوداً. والأمر الثالث، وقوع بعض هذه القنوات في فخ "الشعبوية" والخطاب المُؤدلج التحريضي. المجال الثاني الذي لم يعد التفاؤل ممكناً فيه، يتعلق بفكر الجماعات الإسلامية، فآنذاك، كانت عدّة جماعات إسلامية تدّعي السعي للمجتمع المدني، وللديمقراطية. ولكن ما حدث لاحقاً كشف أن تيّار المراجعة "المدني" داخل الحركات الإسلامية فشل وضعف، فإذا تجاوزنا ما حدث في فلسطين مثلاً، بما في ذلك الاقتتال المسلح بين "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، واستهداف "حماس" للأعراس والمناسبات الاجتماعية، وكبت الحريّات الصحافيّة، وتجاوزنا القيود والمتابعة للحريات الشخصية من الإسلاميين في البرلمان البحريني، وتجاوزنا تقديم برلمانيين إسلاميين أردنيين العزاء بوفاة أبو مصعب الزرقاوي، باعتبار بعض ذلك قضايا خلافية، فإنّ مشروع برنامج "الإخوان المسلمين" المطروح في مصر، أنهى أي تفاؤل، عندما طرح فكرة تأسيس هيئة من كبار علماء الدين تملك قرار قبول أو رفض ما يقره البرلمان المنتخب، وهو ما يعني أنّه سيتم وضع هيكل دستوري للحكم، شبيه بالتطبيق الإيراني، يمنع وصول غير الإسلاميين، وحتى بعض الإسلاميين، للسلطة، فما معنى مثلاً فوز حزب ليبرالي أو علماني أو له اجتهاد إسلامي معين، بالانتخابات إذا كانت تلك الهيئة هي الفيصل؟. ويتضح الآن أنّ بعض الشباب الإسلامي، ممن طرح فكراً جديداً حول الديمقراطية والعلمانية، يتم استهدافه والتشكيك بنزاهته داخل الحركة الإسلامية، أو يتم محاصرته ودفعه للاحتفاظ بأفكاره لنفسه.