عقد يوم الاثنين الماضي في أبوظبي "منتدى الاتحاد" السنوي الثاني الذي شارك فيه نخبة من الكتاب والمثقفين والمفكرين والإعلاميين الإماراتيين والعرب من كتاب صفحة "وجهات نظر" في جريدة "الاتحاد"، وكان المنتدى تحت عنوان "تحديات الثقافة العربية في عصر العولمة"... وسلط المشاركون في جلساتهم الضوء على قضايا عديدة وفي نفس الوقت تجاهلوا قضايا مهمة كان يفترض أن تنال اهتماماً أكبر... لكن النقطة المهمة التي اتفق عليها الجميع هي أن الثقافة العربية بحاجة إلى اهتمام أكبر، سواء من المثقفين أو الحكومات من أجل تأكيد حضورها وتأثيرها وتفاعلها في عصر العولمة. إنني لا أخشى على الثقافة العربية وأرجو أن لا يخشى المثقفون على هذه الثقافة ذات الجذور التاريخية والحضارية العريقة؛ لأنها ثقافة أصيلة ومن الصعب أن تلتهمها موجة العولمة بين عشية وضحاها، وهي ثقافة مترامية الأطراف من الرباط إلى مسقط ولها من يحافظ عليها... أما القلق الحقيقي فيكمن في أن يفوتنا قطار العولمة بكل ما فيه من أغراض المجتمع الحديث، فدول العالم لا ترفض الانفتاح على الآخر وإن أصرت على المحافظة على خصوصيتها... وما يجب أن نخاف عليه أيضاً هو المثقف العربي التقليدي الذي قد يختفي في خضم مقاومته للآخر وعدم تقبله للتغيرات التي تطرأ من حوله... هؤلاء المثقفون الذين خسروا كثيراً من رصيدهم في زمن ما قبل العولمة وجاء زمن العولمة ليكمل على ما تبقى من رصيدهم لدى الجمهور العربي. على مدى العقود الخمسة الماضية تكونت فجوة حقيقية بين المثقفين العرب وبين السلطة، وفي العقود الثلاثة الأخيرة الماضية ازدادت هذه الفجوة لتصل إلى المجتمع فصار المثقفون بعيدين عن الجمهور وعن هموم الشارع وتحولت الثقافة إلى مسألة نخبوية خاصة بفئة من الناس وليس كلهم حتى أن بعضهم صاروا ينظرون إلى كلمة "مثقف" وكأنها تهمة أو شيء غير مقبول. لقد قبل كثير من المثقفين العرب أن يعزلوا أنفسهم عن الناس والجمهور حتى وقعوا في فخ رفض الآخر، فصار كل من "لا يغني على ليلاهم" ليس منهم وليسوا منه ولا يقتربون منه وممنوع أن يقترب من منطقتهم. وتضخمت هذه الحالة حتى صار بعض المثقفين يحصرون الثقافة في "شلة" بعينها ومن ليس من هذه الشلة ـ في نظرهم ـ لا يكون مثقفاً ولا علاقة له بالثقافة! لقد كان المجتمع العربي على مر تاريخه منفتحاً على الآخر، وكان عالمياً وعولميا يؤثر في الآخر ويتأثر به من دون أن يفقد خصوصيته، لذا كان تأثيره في الآخر أكبر من تأثره به. وغريب أن تكون هناك أصوات عربية اليوم ترفض التأثير والتأثر بالثقافات الأخرى وتخشى على الثقافة العربية وكأنها ثقافة جديدة وهزيلة يمكن تفتيتها وإخفاؤها بكل بساطة! والحقيقة عكس ذلك فليس هناك خوف على الثقافة العربية أو أية ثقافة في زمن العولمة، فالثقافة القوية تحمي نفسها وتقوي نفسها بنفسها من خلال ما تحمله من قيم ومبادئ وأسس لا يمكن المساس بها. الملفت في مسألة الثقافة العربية وحالة المثقف العربي، هو أن ثقافة الفرد والمجتمع تتغير وتتطور في حين أن ثقافة النخبة المثقفة تراوح مكانها بل ويكرر المثقفون أنفسهم من دون أن يدروا... وفي وقت صار المجتمع يتلقى ثقافته من الشرق والغرب والشمال والجنوب عبر الفضاء المفتوح، سواء على الإنترنت أو شاشات الفضائيات، فإن المثقف العربي يصر على أن يحصر الثقافة في مجتمعه المغلق المحدود ويناقش قضايا متخصصة جداً وجدلية في كثير من الأحيان بعيدة عن اهتمامات المجتمع... ومن ثم ينتقد المثقفون المجتمع ويتهمونه بأنه غير متفاعل بل وسلبي لأن أفراده لا يتفاعلون معهم وبالتالي يرى المثقفون أنهم "فقط الايجابيون" في هذا المشهد العربي الغريب! ولا ينتبه المثقف العربي إلى أنه في الوقت الذي تزداد فيه لغة المجتمع بساطة وسهولة فإن لغة المثقفين تزداد صعوبة وتعقيداً وبالتالي يهرب الناس عنهم وعن الأفكار المستنيرة التي يفترض أن يستمعوا إليها ويمارسوها ويتجهون إلى أشباه المثقفين الذين غالباً ما يتخذون الدين حصاناً يركبونه ليحققوا أهدافهم بأسرع ما يمكن، وقد نجحوا في ذلك وفي هذه الحالة يخسر المثقف ويخسر المجتمع ولا يكسب غير أولئك الأدعياء الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف. بعد سنوات طويلة من انشغال المثقفين بالتنظير والجدل حول قضايا شديدة الخصوصية، عن قضايا المجتمع وعن قضايا الحوار مع الآخر وفتح آفاق جديدة للعمل ونقل الخبرات... صار المثقف العربي اليوم بحاجة إلى أن يقنع الجمهور العريض بأنه "فاعل" وليس مجرد منظّر يردد النظريات والأفكار التي أغلبها لا يمكن أن تطبق على أرض الواقع. في أبوظبي اليوم محاولات ثقافية جريئة في مجال الفن بمختلف أبوابه، وفي مجال الكتاب والسينما والمسرح والموسيقى والكتابة الأدبية والشعر... وهو "فعل" من أجل نشر قيم التسامح وبناء جسور من التفاهم وتبادل الخبرات والتجارب مع الآخر... وفتح آفاق جديدة للتعاون والعمل المشترك وترسيخ الفكر المستنير. وهذا الفعل الثقافي الذي يتم التأسيس له في أبوظبي من خلال الفعاليات والمعارض والجوائز في مختلف مجالات الفنون والآداب، من شأنه أن يخلق فهماً جديداً للثقافة يتناسب ومتغيرات القرن الحادي والعشرين ويتناسب وأفكار الجيل الجديد من الشباب، ومن شأنه أن يخلق صفاً جديداً من المثقفين الذين يتميزون بطريقة مختلفة في التفكير وفي النظر إلى الآخر وفي التعامل مع مفهوم الثقافة ودور المثقف في المجتمع. أخيراً وفي نظرة إلى المرآة نكتشف أننا في كثير من الأحيان تعودنا كمثقفين عرب أن نلقي اللوم في المسألة الثقافية على الجمهور وعلى السلطة ونطالبها بما يفترض أن نقوم به... وهذه حالة يجب أن لا تستمر إذا كان المثقف العربي جاداً في أن يكون له دور حقيقي في المجتمع... كما أنه من المهم أن يكون للمثقف موقف معلن وواضح من قضايا المجتمع وقضايا الأمة، لا أن يبقى سلبياً يتفرج كما تتفرج الجماهير الغفيرة من دون أي موقف أو فعل! ووضوح موقف المثقف صار مهماً لأن أفراد المجتمع صاروا يدركون أن هناك نوعين من المثقفين العرب؛ مثقف يمارس الفعل الثقافي من أجل الثقافة والمعرفة والوصول إلى الحقيقة، وهذا النوع يبقى مثقفاً إلى الأبد يعمل من أجل إثراء الثقافة العربية وفتح حوارات وآفاق مع الآخر... ومثقف يسعى من وراء ذلك الفعل الثقافي إلى تحقيق مصالح شخصية والوصول إلى مناصب معينة، وبمجرد أن يحقق هدفه من "ثقافته" ينتهي الفعل الثقافي لديه إلى الأبد.