في كتابته عن الاستعمار البريطاني للهند، سخر كارل ماركس، مؤسس المذهب الشيوعي، من "نفسية" الفلاح الهندي الذي قعد مئات السنين "على المصطبة" ليتفرج بعيون زائغة على جيوش مختلف الإمبراطوريات وهي تتحرك في بلاده في شتى الاتجاهات. لم يكن ماركس يسخر من هذا الفلاح نفسه بقدر ما كان ينتقد في الواقع سلبية نظام سياسي اتسم بالركود والركون للمصير والقدر الذي كان بدأ يتحول بتأثير الإمبريالية الأوروبية الرأسمالية الحديثة. والواقع أن ماركس لم يفهم ولم يقدر كثيراً القوة الروحية للفلاح الهندي ولا ميله الثقافي للسلام. وبينما كان ينتقد بحدة الظاهرة الإمبريالية فقد وقع في تناقض أصيل، إذ أظهر هذا التحقير لنفسية وثقافة الإنسان المسالم وخاصة لو كان فلاحاً هندياً! واجه الفلاح الهندي بعد ذلك الإمبريالية البريطانية بقدر كبير من الصلابة، ودون أن يلجأ للعنف كما علّمه غاندي. ومثلت هذه المقاومة تطوراً ثورياً حقاً في العلاقات الدولية. إذ اثبت غاندي أن المقاومة السلمية يمكن أن تكون قوية وثورية في آن واحد. ولا يمكن القول إن المقاومة السلمية هي الأسلوب الوحيد الممكن تاريخياً لمناهضة مشروعات إمبريالية أو مشروعات الهيمنة الأجنبية. فالنضال المسلح كان في لحظات كثيرة من التاريخ، الاستراتيجية الوحيدة الممكنة للحصول على الأمن والاستقلال السياسي. غير أن المبادرات السلمية هي بكل تأكيد أقل الاستراتيجيات تكلفة، وإن كانت أكثرها حاجة للاجتهاد والخيال حتى لا تنقلب إلى استسلام. وهذا هو تحديداً ما تتطلبه عملية بناء استراتيجية لمواجهة تحدي احتمال انفجار حروب جديدة في المنطقة عموماً وفي منطقة الخليج بصورة خاصة. فالمبادرة السلمية ليست فقط أقل الاستراتيجيات تكلفة بل هي تبدو أيضاً الاستراتيجية الوحيدة الممكنة على المدى الطويل, بل والاستراتيجية الوحيدة المضمونة الفعالية والتي تجنب شعوب الخليج مآسي لا حصر لها وقد تمتد لحقبة طويلة من الزمن. هي الاستراتيجية الوحيدة المضمونة لأنها الأكثر نجاعة في التعاطي مع التطورات الجديدة في البيئة الاستراتيجية لمنطقة الخليج، بل وعلى المستوى العالمي أيضاً. ويكفي أن نشير هنا إلى ثلاثة تطورات أساسية. إن أبرز التطورات في البيئة الاستراتيجية للخليج وربما على المستوى العالمي هي أن الولايات المتحدة لم تعد تستطيع ضمان أمن الخليج كما كان في الماضي. فهي متورطة بعمق وبصورة شبه يائسة في العراق. وإلى ذلك يواجه المشروع الاحتلالي الأميركي للعراق ورطة كبيرة في الداخل الأميركي. ومن المحتمل جداً أن تتمكن الإدارة الأميركية من شن حروب جديدة عن طريق الغارات الجوية المكثفة. لكنها لا تستطيع حتى مجرد الصمود أمام احتمال الانجراف إلى حروب برية. ولو تصورنا أن الإدارة الأميركية قامت بشن غارات جوية ضد إيران مثلاً فعليها تحمل خسائر كبيرة جداً فيما لو قررت إيران الرد الثأري بالصواريخ. والأهم أن عليها تحمل خسائر أكبر بكثير فيما لو قررت إيران خوض حرب برية طويلة ضد القوات الأميركية في العراق أو في أي بلد عربي آخر في الخليج. ولا شك أن الخسائر التي تتحملها أطراف عربية ستكون أشد وأكبر بالنسبة والتناسب. ولهذا السبب فإن التطور الثوري الأهم في البيئة الاستراتيجية للخليج هو أن الولايات المتحدة لم تعد تضمن إطلاقاً فرض إرادتها المنفردة أو حتى الإرادة الجماعية للقوى الغربية على بلد آخر، خاصة إذا كان يتمتع بإرادة سياسية عالية. وقد تمكنت إيران من مقاومة الضغوط الأميركية المنفردة، عندما كان الأوروبيون ينتهجون سياسة الاشتباك البناء معها, ثم تمكنت أيضاً من مقاومة الضغوط الجماعية الأميركية الأوروبية بعد أن بدأت أوروبا في تطبيق سياسة أكثر تشدداً. الانخفاض المتواصل في القدرة الأميركية على الهيمنة أو فرض الإرادة السياسية، لا يعود فقط إلى القيود المفروضة على القوة العسكرية الأميركية بل أيضاً إلى بروز ذهنية جديدة وخاصة لدى تيارات الإسلام السياسي المتشددة: أي ذهنية لا تخشى العنف الأميركي والغربي ولا تعتد بالردع أو بالقيود السياسية أو العقوبات الاقتصادية. ومن المؤكد أن الأميركيين صاروا أكثر فشلاً في مواجهة ما يسمونه بالحروب غير التقليدية أو الصراعات منخفضة الكثافة أو غير المتكافئة مقارنة بالحروب التقليدية التي ِأشرفت على الاختفاء. لكن هناك تطورا ثالثا بالغ الأهمية أدخلته الإدارة الأميركية الحالية في البيئة الاستراتيجية العربية، وهو أنها لم تعد تحصر أهدافها في تأمين النظم العربية الحليفة، بل إنها هي ذاتها صارت خطراً على هذه النظم، كما يتضح من شعار الفوضى الخلاقة ومن العلاقات المحتقنة مع مصر والسعودية. وبحساب مجمل النتائج المحتملة لهذه التطورات الثورية في البيئة الاستراتيجية العربية، يظهر اختياران أساسيان أمام الدول العربية وخاصة في الخليج. الاختيار الأول هو الاعتماد الجماعي العربي على النفس لإعادة بناء نظام فعال للأمن الخليجي والعربي. والاختيار الثاني هو تحويل البيئة الاستراتيجية وخاصة في منطقة الخليج. ومن البديهى أن هذين البديلين متكاملان أو يمكن أن يصاغا كذلك. غير أن إمكانية إيجاد ترجمة مادية وسريعة للاعتماد الجماعي الاستراتيجي العربي على النفس، تبدو بعيدة. فكثير من النظم العربية تعاني من الشيخوخة وتفتقد القدرة على استلام زمام المبادرة الاستراتيجية. وبعض النظم العربية الأخرى حسمت اختياراتها الاستراتيجية على ضوء معطياتها المحددة على نحو غير موات لمفهوم الاعتماد الجماعي على الذات العربية وقد ينطوي على تهديد لأمن الخليج ولو بصورة مستترة ومن خلال التحالف الاستراتيجيي مع إيران. وفوق ذلك فان الأميركيين لم يحسموا موقفهم النهائي من العراق رغم وربما بسبب الضغوط المتعارضة. وبينما قد لا يسهل على الحكومات العربية عموماً والخليجية بوجه خاص إنتاج استراتيجية جديدة للأمن في الأمد القصير، فالضرورة تملي عليها أن تبدأ في صوغ بدائل قابلة للتطبيق السريع وقبل أن يحسم الأميركيون موقفهم من العراق وإيران. فإن انسحب الأميركيون مثلاً من العراق بصورة مفاجئة، فسوف يتركون الخليج تحت رحمة إيران. وإن قرروا ضرب إيران عسكرياً، فستتحمل دول الخليج والعرب عموماً نتائج هذا القرار لحقبة طويلة مقبلة قد لا يجدوا فيها لا الأميركيين ولا غيرهم ممن يستطيع توفير الحماية الاستراتيجية. ولذلك فالتوقيت المناسب لصوغ استراتيجية بديلة هو الآن. الحل ليس في تبني ذهنية الفلاح الهندي الذي نظر بعين زائغة لجيوش الإمبراطوريات وهي تعبر بلاده من كل الاتجاهات. ولكن المبادرات السلمية الخلاقة يمكن أن تشكل بديلاً يوفر القوة ويحول البيئة الاستراتيجية جذرياً من الصراع إلى التعاون. ما نطلبه هو صياغة مثل هذه المبادرات الخلاقة مع إيران لتحقيق ثلاثة أهداف مترابطة. الأول هو تجنب احتمال أن تتخذ الإدارة الأميركية الحالية قرار الحرب مع إيران وتترك دول الخليج لتتحمل نتائج هذا القرار لعقود مقبلة. والثاني هو إطلاق عملية سياسية تفكك مصادر الخطر والتهديد الحالية وتؤمن فرصة عادلة لشعوب المنطقة لإيجاد حلول سلمية وعادلة لمشكلاتها المستفحلة وخاصة في العراق. والثالث هو إعادة بناء النظام الثقافي والسياسي الإقليمي، بما يوفر فرصة لاستعادة فرصة الازدهار للحضارة العربية الإسلامية. ماذا يمكن أن تكون هذه المبادرة؟ هذا ما نعالجه في الأسبوع المقبل.