لأول مرة منذ ربع قرن، يضع التقرير السنوي للبنك الدولي الزراعة وإنتاجية المزارعين الصغار في صلب أجندة عالمية لمحاربة الفقر، وذلك بالنظر إلى أن ثلاثة أرباع فقراء العالم يعيشون في المناطق الريفية. إذ يعد "تقرير التنمية العالمية"، الذي صدر الجمعة، الأول من نوعه حول الزراعة منذ 1982. وكانت وحدة داخلية للتقييم قد أخذت على البنك إهماله للزراعة في أفريقيا وتراجع دعمه المالي لهذا القطاع خلال السنوات الخمسة عشر المنصرمة –وهو دعم لم يبدأ في الارتفاع بشكل محسوس سوى العام الماضي. ويشير التقرير بصفة عامة إلى بداية إجماع بين البلدان الغنية والأطراف المانحة للمساعدات والحكومات الأفريقية حول أهمية زيادة الاستثمار العمومي في مجالات البحث العلمي والطرق الريفية والسقي والقروض والأسمدة والبذور– أي الأشياء الأساسية بالنسبة للاقتصاد الزراعي- في مساعدة مزارعي أفريقيا الفقراء على إنتاج محاصيل كبيرة من الذرة والأرز والذرة السكرية والدُّخن والمنيهوت. وقد لوحظ قبل ذلك تراجعٌ في المساعدات الخارجية للزراعة مقابل تزايدٍ في الدعم للصحة العامة والمدارس الابتدائية. غير أن كثيراً من المحللين يرون أنه إذا كانت محاربة الإيدز وغيرها من الأمراض الفتاكة تعمل على إنقاذ حياة ملايين الأشخاص، وأن جهود تشجيع الآباء على إرسال أبنائهم إلى المدارس الابتدائية تؤدي إلى انخفاض معدلات الأمية، فإن معظم الأفارقة الفقراء الذين يكسبون قوت عيشهم من الزراعة يحتاجون إلى زراعة المزيد من أجل توفير الطعام لأنفسهم وإخراج أنفسهم من العوز والفاقة. وفي هذا الإطار، يقول "ألان دي جانفري"، وهو أحد معديْ التقرير الذي يحمل عنوان "الزراعة من أجل التنمية" والذي يدرِّس الاقتصاد الزراعي بجامعة كاليفورنيا في بيركلي منذ 40 عاما:"إننا لا نقول إن الصحة والتعليم غير ضروريين. غير أنه لا يوجد في أفريقيا بديل للزراعة باعتبارها مصدرا للنمو". والواقع أن البنك الدولي ليس الأول الذي يَخلص إلى هذا الاستنتاج. فقد كانت الحكومات الأفريقية قد وعدت في قمة الاتحاد الأفريقي في 2003 بمضاعفة حجم إنفاقها العام على الزراعة. وفي 2005، دعا "مشروع الألفية" التابع للأمم المتحدة، والذي يقوده عالم الاقتصاد والأستاذ بجامعة كولومبيا "جيفري ساش"، إلى زيادة حجم الاستثمارات من أجل رفع إنتاجية المزارعين الفقراء في أفريقيا. والعام الماضي، انضمت "مؤسسة بيل وميليندا جيتس" إلى "مؤسسة روكفيلر" من أجل المساعدة على إحداث ثورة خضراء في أفريقيا بعد إدراكها، وهي المعروفة بنشاطها في مجال الصحة العالمية، لحقيقة أن الفقر المدقع وسوء التغذية يقفان وراء جل الأمراض والوفيات التي تبتلي بها القارة السمراء. بيد أن البنك، الذي يعد المؤسسة الرائدة في مجال التنمية في العالم والممول الرئيسي لبرامج محاربة الفقر، يلعب دوراً فريدا في تقديم النصح للبلدان الفقيرة، ومن المرجح أن تؤثر عودته إلى الزراعة على سياسات الحكومات في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا، حيث يرزح مئات الملايين من المزارعين والعمال الذين لا يملكون أرضاً تحت وطأة الفقر. وقد ظهرت فكرة إعداد التقرير، الذي يقع في 365 صفحة، قبل مجيء الرئيس الجديد للبنك "روبرت زوليك"، الذي اعترف بالتقييم الذي انتقد أداء البنك مؤخراً. وقال زوليك في منتدى نقل على شبكة الإنترنت مباشرة: "من أجل النجاح، لا بد من رفع حجم الاستثمارات". وتجدر الإشارة إلى أن "روبرت ماكنمارا"، الرئيس السابق للبنك الدولي، بدأ المرحلة الأخيرة من الاستثمار الطموح في الزراعة الأفريقية في عقد السبعينيات؛ غير أن التقييمات الداخلية للبنك وجدت أن العديد من هذه المشاريع، والمشاريع التي تلتها، باءت الفشل لعدد من الأسباب، ومن ذلك أنها كانت في كثير من الحالات تتميز بالتعقيد، والتخطَّط وتدار من قبل مهنيين من خارج البلدان المراد مساعدتها، ولا يتم تبنيها بالكامل من قبل البلدان الفقيرة التي لم تكن تستطيع تنفيذها بشكل مستقل، كما أنها لم تكن تلتزم التزاما قوياً نحو المزارعين الفقراء. وفي عقد الثمانينيات، في عهد رونالد ريجان ومارجريت تاتشر، عمل البنك الدولي بشكل متزايد على سحب دعمه للزراعة حيث كان يتوقع أن تدعم الأسواق الخاصة النمو من خلال المنافسة. بل إن مسؤولي البنك كانوا يعتقدون أن الشركات الساعية وراء الربح ستستثمر في مجال الطرق بالمناطق النائية في أفريقيا. إلا أن الأسواق الخاصة كانت في الكثير من الحالات، ومثلما وجد التقييم الداخلي، تتخلف عن إيصال عدد من السلع والخدمات التي يحتاجها المزارعون، ومن ذلك البذور المطورة والأسمدة والقروض. ويشير التقرير إلى أن المعونات الزراعية تترسخ في كثير من الحالات حتى بعد تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها. فعلى سبيل المثال، وجد التقرير أنه في حال أزالت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وبلدان غنية أخرى كل التعريفات الجمركية والمعونات التي تخصصها لمزارعي القطن وحبوب الصويا وغيرها –وهي ممارسات تتسبب في انخفاض السعر العالمي لهذه المحاصيل وتجعل من الصعب على المزارعين الذين لا يستفيدون من المعونات الحكومية في البلدان الفقيرة التنافس في الأسواق الدولية- فإن نصيب البلدان النامية من التجارة العالمية في القطن والحبوب الزيتية ستتجاوز 80 في المئة في 2015 بدلا من نحو النصف تقريبا. وقال ديريك بيرلي، الخبير في الاقتصاد الزراعي بالبنك الدولي الذي أعد التقرير إلى جانب البروفيسور "دي جانفري"، في ندوة يوم الجمعة الماضي إن معونات الولايات المتحدة لمزارعي القطن "تؤثر بشكل مباشر وسلبي على المزارعين الأفارقة". أما البروفيسور "دي جانفري"، فأوضح أن التقرير لا يرمي إلى تسوية المسائل المعقدة والصعبة المتعلقة بالسياسات، وإنما إلى "تغيير الحديث". سيليا دوجر صحفية أميركية متخصصة في قضايا التنمية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"