للإنسان أمان وأهدافٌ وطموح وحبٌ لِذَاته ولذوات أشياء يطلبُها لِذَاته، ومن زاد في أمانيه وأهدافه وطموحه وذاته ولم يبلغ منها واقعا، ويتمنى وقوعها وبلوغها، فله في الأحلام ما يبلِّغه أو يُبشِّره أو يمنِّيه أو يصبِّره إليها وبها وفيها وعنها. فالأحلام عالم غريب في بحوره من نفس وعقل وكل ما هو حيٌّ في الإنسان، وفي دنياها ما هو من الرؤيا التي تلهمُ النفسَ فجورَها وتقواها، ومنها الحلم الذي يأتي ليغذِّي ويروي نفس الإنسان المتعطشة لطموحها وأهدافها ولذَّتها وشهوتها وحبها بما فيها من عذاب وشقاء وسعادة... عالَم الحُلم، عالَمُ ما نطلب ونشتهي ونطمح ونصبو إليه ونتمنى... وكله ما يزال خارج الواقع المادي ولا تطاله اليد، إنه في غياهِبِ الإنسان، في معتَقَل أُنسهِ وونسه وسلوته ونجواه وعلته ودواه... وهذا المعتقل هو الباعث والخالق والصانع لهذا العالم الخارج من أغوار وأعماق نفس الإنسان. وما المعتقل الذي ضمّ واحتضن وتلوَّى وانطوى على كل ما في النفس من رغبة ولذَّة وطموح وشهوة وسعادة وحزن وهدف ومنى وسلوى ونجوى إلا هذا الصبر، فالصبر أكبر معتَقَل داخل الإنسان، منه تخرج التقوى والفجور والجنة والنار والملاك والشيطان والخير والشر. أجل، الصبر أكبر معتقل في داخل الإنسان، إنه غَيهَب الغيهب... معتقلٌ له حراس، ومن بين أصابعهم تُفلت صورٌ وأطياف وخيال لِما كانت النفسُ عليه في صَبر، فلها في صبرها هذا، أو إن شئتم في معتقلها، ذاك الطيفُ أو الخيال، أما الواقع فله وَقْع الحياة وتصاريفها. وهذا الحُلم من ذاك الحِلم، فعندما يخلد جسد الإنسان إلى النوم والراحة والاسترخاء والذوبان في السكون يختل المعتَقَل/الصبر يتسلل أَحد المعتَقَلين، وما المعتقلون سوى تلك الأماني والطموح والشهوة واللذة والحب والسعادة والعذاب، ويخرج متخذاً شكل صورة وصوت بخيال، بوهم، بطيف... أما إذا قام الجسد مما خلُد إليه من نوم وراحة وسكون واسترخاء يعود المعتَقَل/الصبر وحراسُهُ إلى سابق عهدهم من الانضباط، فكلما عاش الجسد واقِعه زادَ انضباط المعتَقَل وكأنه في ضبطه وانضباطه غير موجود إلا في واقعهِ داخل الإنسان، في أعماقهِ وبحورهِ النفسية. وإن يكن الفضاء الذي ندركه ونلمسه ونعايشه ونراه ونتكيف معه فضاء عظيماً وضخماً، فإن المعتقل الذي بداخلنا يكون انعكاساً له، بل ربما يكون أعظم وأضخم منه إلا أننا أكثر جهلاً به ولأننا مازلنا نجادل في الوجود وأبعاده، كيف ولماذا ومتى وأين ولعل... والحُلم والحِلم من خصائص الإنسان وإنسانيته، فمن قلَّ حُلمُه قلَّ حِلْمه ومن زاد حُلمه زاد حِلمه... صحيح يا صاحِ أن الحليم من بني الناس صاحبُ قوة وبأس، لأنه يعكس ذلك في قول ٍ أو فعلٍ أو تقوى فيُكتب مع الحكماء أو الأقوياء أو الأتقياء والفاضلين، ويحق القول إن من زاد حُلمه وحِلمه كان كمن يشقى في النعيم بحِلمه، كما يحق القول أيضاً إن من قلَّ حُلمه وحِلمه كان كأخ جهالة في شقاوة ينعم، فهو أكثر سعادة وسرورا، كما وقد تكون نفسه قادته إلى ما تشتهي وترغب وتطلب ورَمَت به في مسالك الذل والهوان. أما من بلغ وسط الحُلم والحِلم فذلكم هو السعيد التقي بما استطاعت نفسه أن تقود حُلمه وحِلمه إلى ما يحفظ له أن يكون إنسانا، فما يزال به منهما ما يجعله أكثر إنسانية. وما يزال يحقق من مبتغاه وأهدافه في واقعه وما زال يتمنى ويطلب ويشتهي ويرغب... وعند هذا التداخل والتقاطع بين الحُلم والحِلم في الإنسان وإنسانيته، استدار قلمي وفكري إلى ذكرى أصدقاء منهم الراحل والمفارق ومنهم الباقي، فقد جمَعتُهم إلى طاولتي لأستعرض ما كانوا يحدثونني به ويجادلونني فيه، فها هو صاحب المكتبة يحدثني بأن أكثر المبيعات من الكتب هي تلك المتعلقة بتفسير الأحلام فأدركت أن المعتَقَلات ومكنونات الصبر ضخمة وكبيرة في عددها وحجمها، بل أكبر مما يطلب صحابها ويهدفون ويتطلعون ويحبون ويتمنون... ربما هناك من النظم الاجتماعية والأعراف والتقاليد والعادات والمناهج الدينية وسبل الحياة ما زاد من المعتَقَلات وفيها. وعلى طاولتي استحضرت ذكرى أحد أقراني، عرفته منذ الصغرِ عندما كانت الأيدي تستطيع حملي بسهولة، ليحدثني عن التقوى، فهي عنده الصبر على الملذات والشهوات وما تحب النفس وترغب وعلى تصاريف الدنيا والأيام إلى الآخرة. وكان صديقي هذا أكثر الناس اتصالاً بجسد الشيطان لأنه حَرّمَ على نفسه الملذات والشهوات والمطالب التي هي من حق الإنسان، بل هي حقيقة الإنسان في معادلة العقل واللذة والشهوة والرغبة، ولصاحبي هذا معاركُ وجولاتٌ وكرٌّ وفرٌّ في عالم الأحلام ولم يعد يرى فيها إلا أن الشيطان يرغب في تغيير ما سلك ونهج، وما الشيطان هذا إلا صبرُه على ما تطلبه ذاته وتحبه وترغب فيه من خصائص وذوات أشياء عديدة. وفي الأخير استحضرت صديقي المجادل، فكان أن وقع في العشق والغرام، فسألته ما الحب يا ربيعَ الصداقة؟ فقال، إنه التذلل والتسخير وليس التنجيم والتّسحير، فتصافحت ضحكاتنا... وقلت له، أنت تحب الجناس ورونق القول... ثم حدثته عن الحُلم والحِلم وما العلاقة بينهما... فقال أعجبني فيهما جناسهما. فقلت، أهذا ما أعجبك؟. فأردف يقول: الحُلم والحِلم رديفان وحكايتي دليل على ما طرحتَ أنت، لقد صبرتُ على جفاء وعناد حبيب فكنت له المسخرً والمسحرً وكان قد ملكني بتعسفٍ وتجبرِ وكان لي جار حفظةُ له الجيرة ولم يُجِرني في هواه أحدٌ ولم يأخذ سلامي ورسائلي إليه أحد، فكانت كل أحلامي عنه، يأتي ويروح بين طيف يوحى بأنه معي ولي وبين قول يستحثُّني الصبر، فهو من الراجعين والعاشقين، وبين نظرة خيال بوهم ترمي إليّ بكل الحب والوله والشوق، فكنا على موعد للقاء دائم في عالم الأحلام هذا لكوننا على ود وحب في سالف الواقع، ولكن الواقع الجديد جعله من الراحلين والمحَرمين عليّ. فقلت له، وانقطع الحلم. فقال، يأتي بين الحين والآخر في الكرى فما زال الهوى رغم طول النوى فأنا بين البَين والرجاء واليأس، ولكن لماذا يا ترى؟ فقلت له، ما زال حبهُ بين جوانحك، في ذات نفسك، في معتقلها، وذات نفسك ترنو إليه ولا تحقِّقه إلا في عالم الأحلام ويبقى الحُلم والحِلم آية من آيات الله في خلقهِ للإنسان وفي إعادة خلقه وحشره ونعيمه وعذابه وخلوده... ولا يعلم ما في النفس من حُبٍّ ومطلب ومبتغى وخير وشر وتقوى وفجور... إلا الله هو العليم الخبير.