ظلّت الإشكاليات والأزمات الحادثة بين البشر والطبيعة من جهةٍ، وبينهم وبين الدين أو العقيدة من جهةٍ أخرى، ثم بينهم وبين بعضهم بعضا من جهةٍ ثالثةٍ، ظلت هذه الإشكاليات تظهر تلقائياً بحكم طبيعة الأشياء، وفي سياق التراث الإسلامي قابل ظهورها عددٌ من المدارس في التعامل معها ومحاولة رسم طرق الخلاص منها. فخرجت على المستوى الفقهي مدرستان كبريان هما: مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث، وعلى المستوى العقدي مدارس متعددة تجمعها مدرستان كبريان: مدرسة العقل ومدرسة النقل، وعلى المستوى الفلسفي: مدرسة أهل الكلام والمدرسة الفلسفية المستقلّة. نعم، ثمّة تداخلٌ لا يمكن إنكاره بين كل مدرستين داخل كلّ مستوى، بل وتداخل بين المستويات نفسها، فالعلاقات في مجال الأفكار أكثر تعقيداً من العلاقات على مستوى البشر والمادّة، فالتصوّر الذهني أكثر سعة وأخصب خيالاً من التجلّي المادّي، ولكنّ هذا لا يمنع بحالٍ من محاولة القراءة والفرز والنقد. كان لكل مدرسة منهجٌ مستقلٌ يسعى للكمال والاستقلال عن غيره في تقديمه لطريق السعادة الدنيوية والخلاص الأخروي، وكان الصراع نتيجة طبيعية لاختلاف المناهج والتصوّرات، وكانت مساحاتٌ شاسعة من اللاحسم أكثرها لا يزال قائماً حتى اليوم. غير أنّ ما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أنّه عندما استقرّت الأوضاع لانتصار مدرسةٍ نصوصيّةٍ نقليّةٍ وذلك بعد فترةٍ طويلة من الصراع، كان من أهمّ الظواهر الجديرة بالملاحظة هي أنّ ثمّة ارتحالا أو ترحيلا قسريا لكثير من الإشكاليات والأزمات من حيّز "العلم" الذي طبيعته السؤال والشكّ والتطوير، إلى حيّزٍ آخر طبيعته التسليم والطاعة وهو حيّز "الإيمان". بمعنى أنّ كثيراً من المسائل والأفكار المتداولة والتي كانت تدور حولها المناظرات ويقوم عليها الجدل والحوار والردود بين الفرقاء تمّت عمليّةٌ قسريّةٌ لتحويلها إلى مسائل غير قابلة –دينياً- للنظر والجدل والحوار، فوضع العلم بها والنقاش حولها في تابوتٍ مغلقٍ تمّ الاصطلاح على تسميته "عقيدة". يمكن رصد هذا الارتحال أو الترحيل من خلال عددٍ من المداخل العلميّة، فيمكن الرصد من خلال العلوم الشرعية كعلم التفسير وعلم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم العقيدة وغيرها من العلوم، كما يمكن رصده من خلال عددٍ من المسائل التي اشتهرت وأصبحت محلّ تنازع وفرقة بين المتخالفين، كمسألة الأسماء والصفات ومسألة خلق القرآن ومسألة تعريف الإيمان، ومسألة الحكم وغيرها كثير من المسائل، هذا في النماذج التاريخية التي بدأت بعض المسائل المعاصرة تنافسها في استقطاب المتصارعين من داخل التيّار الواحد فضلاً عن المنتمين لتيّاراتٍ مختلفةٍ أو متناقضة. رغم الحساسية المعاصرة التي خلقها تراكم التسليم ودعة العقول إلى برودته بدلاً عن حرارة السؤال والاستشكال، فإنه لا يمكن –بحالٍ- تبرير ركون كثيرٍ من المفكّرين إلى طلب السلامة بدلاً من طلب الحقيقة، وسعيهم للحفاظ على استقرارهم ونفوذهم داخل المجتمع بدلاً من السعي إلى إيقاد مصابيح الأسئلة في عتمات الظلام وتحمّل تبعات ذلك الإيقاد. ثمّة تجلّياتٌ خطيرةٌ كانت ثماراً بائسة لبذور هذا الارتحال أو الترحيل لمسائل العلم لتصبح إيماناً وعقيدةً، من أوضح تلك التجلّيات استبدال "الحكم" الإيماني أو العقدي بـ"الحجّة" و"البرهان" كمعيارٍ علميٍ، بمعنى أنّ الفاصل عند الاختلاف لم يعد البرهان بل الإيمان، وبما أنّ الإيمان تسليمٌ مطلقٌ فإن المخالف فيه لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ، فهو أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يسلّم ويذعن وإمّا أن تصدر بحقّه "صكوك الحرمان"! "صكوك الحرمان" هي مجموعة من الأحكام الدينيّة التي يطلقها رجال الدين أو المنتسبون إليه، بل وأحياناً من بعض العوامّ على من يحاول المساس بأيٍ من المسائل المرحّلة والمهجّرة تراثياً إلى خانة الإيمان، وهي صكوك يتمّ مهرها بخواتم من "تفسيقٍ" أو "تبديعٍ" أو "تكفير"، فالفسق والبدعة والكفر أصبحت أسلحةً في المعركة ضدّ استعادة هذه المسائل العلميّة من براثن التسليم الغبيّ أو غير العلميّ، وقد ركب مدمنو إطلاق هذه الأسلحة صعب اليقين الزائف وذلول الإقصاء الجائر حتى يصلوا لمرادهم وينالوا مبتغاهم ويظفروا بما له سعوا ونصبوا. لذلك فليس غريباً أن تجد كثيراً من العلماء والمفكرين والفلاسفة في التاريخ الإسلامي وعلى جبين كثيرٍ منهم أثرٌ لهذه الخواتم الجائرة، فمن كفر ابن رشد إلى ردّة ابن سيناء والرازي إلى إلحاد الفارابي والكندي إلى فسق ابن الراوندي وغيرهم كثير من المفكّرين الذين كان جزاء تساؤلهم أو محاولتهم نفي "التسليم" عن مسائل "العلم"، أو الخوض في مسائل العلم بآلياته وحججه وبراهينه وليس بالتسليم المطلق والتقليد الأعمى، كان جزاء ذلك هو هذه الأحكام الدينية التي يقودها التعصّب ويحدوها الانغلاق. والعجيب أنّ هذه الأحكام لم تقتصر على المفكرين الفلاسفة فحسب، بل تجاوزتهم إلى المفكرين في المجالات العلميّة البحتة كالفلك والجبر والطب ونحوها من العلوم، وهو ما يدلّ على حجم تضخّم المشكلة وسيطرتها على المشهد التراثي بشكلٍ عام. وحين تحوّل التكفير إلى صناعةٍ لم يستطع أحدٌ الإمساك بلجامه وترويض جموحه، فانتشر وتفشّى تكفير الفرقاء داخل المدرسة الواحدة لبعضهم بعضا على مسائل أتفه من التافهة، وأصغر من الصغيرة، والمتصفّح لكتب التراث وخاصّةً ما كان منها موضوعه الردّ على المخالف يجد الكثير من مثل عبارات التكفير والتبديع والتفسيق التي ترمى على عواهنها عند أحقر مسألةٍ وأدنى اختلاف. إنّ المهمّة الملحّة اليوم هي ثورةٌ باتجاه ارتحالٍ أو ترحيلٍ معاكس، يعيد الأمور إلى نصابها، ويرجع مسائل العلم إلى حيّز العلم، وانتزاعها من براثن "حرّاس العقيدة" و"حرّاس الفضيلة" و"حرّاس الماضي"، وفتح كوّةٍ للعقل يتنفس منها الضياء بدلاً من ظلمات التسليم الأعمى التي غيّب فيها قروناً. ليس المقصود بهذا الارتحال أو الترحيل المعاكس إلغاء الإيمان أو المساس بمكانة المقدّسات الحقيقية في الإسلام بل المقصود هو تنقية هذه المقدّسات الحقيقية من كثير ممّا ألصق بها تاريخياً من مقدّسات زائفة، وإعادة الجزئيات النسبيّة إلى مكانها الطبيعي في الخريطة الإيمانية الكبرى، حتى لا تنافس الكليّات المطلقة في مكانتها وقداستها دون وجه حق. ستظلّ العلاقة جدليّةً والحوار مستمراً بين مساحة العلم ومساحة التسليم، ولن يجتمع الفرقاء على رأيٍ واحدٍ في الفرز والتقسيم، وهذا أمر طبيعيٌ يسهل تفهّمه، غير أنّ غير الطبيعي هو أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه اليوم، حيث يدّعي كلّ طرفٍ من المختلفين وصلاً بليلى الحقيقة، ثمّ يشرع رماحه في وجوه مخالفيه. إن أشعة التساؤل والإشكال حين تسلّط على عيونٍ متقرّحة من طول ما ألفت العشى والعتمة تكون لها آثارٌ سلبيةٌ بالتأكيد وتقرّحاتٌ مؤذية ولكنها في النهاية عافية وصحةٌ وشفاء، ومسافة الألف ميلٍ تبدأ بخطوةٍ واحدة.