كان ذلك في شتاء عام 1976، وكم يبدو الزمان سحيقاً من تلك الحقبة وإلى اليوم وكنت حينها أحضّر للدكتوراه بجامعة توبنجن بألمانيا الاتحادية. وكان معهد الدراسات الشرقية الذي أدرس فيه على ضفة نهر صغير، وعلى ضفته الأخرى مدرسة ثانوية. ظُهْر أحد الأيام ناداني زميل إسباني كان يقف على النافذة في مقابل المدرسة الثانوية لأشاركه في رؤية مشهد لافت: فتاة تركية في الخامسة أو السادسة عشرة تضع غطاء رأس وتتحدث إلى رفيقتها الألمانية ويأتي شاب عابث من خلف الفتاة فيمسك بطرف غطاء رأسها وينزعه فتنسدل خصل شعرها السود على ظهرها. أما الفتاة فتضع يديها على وجهها ولا تلتفت وتبدو كأنها تبكي في حين تسارع ثلاث فتيات ألمانيات لنجدة زميلتهن فيضربن الشاب ويبعدنه ثم يأخذن زميلتهن إلى داخل مبنى المدرسة. في عام 1989 حدث في المدرسة نفسها شيء مختلف تماماً؛ فوفقاً لتقرير صحفي نشر حينها، فقد تقدم طلاب وطالبات المرحلة الثانوية (176 من 211) بطلب إلى مدير المدرسة، يقول إنهم منزعجون من إصرار زميلاتهن المسلمات، وعددهن 17، على ارتداء غطاء الرأس، وأكثر من ذلك طالبوا بالزامهن بخلعه أو منعهن من دخول المدرسة. استجابت الإدارة للطلب وأنذرت الفتيات، فأصرت سبع منهن في حين قررت عشر فتيات لبس الحجاب في الشارع وخلعه داخل المدرسة! في عام 1976 كان عدد المحجبات في المدرسة الثانوية بتوبنجن ثلاثاً وما أزعج ذلك غير زميل واحد لهن فقط، وقد تضامنت زميلات الفتيات معهن وانتهى الأمر عند هذا الحد. وفي عام 1989 صار عدد المحجبات بالمدرسة ذاتها 17، وقد لقين رفضاً عاماً تقريباً وشاركت الإدارة في ذلك. وهكذا فالواقع أن الطرفين يتغيران في حين يصر كل طرف على أن الآخر هو الذي تغير. وبينما يتحدث مثقفون منذ مطلع التسعينيات عن استعصاء المسلمين على الاندماج، تصر غالبية أبناء الجيل الثالث من المسلمين على حقها في ممارسة دينها بشكل كامل وتدين العنصرية والتعصب وتتمسك بمبدأ المواطنة، في حين تكتفي قلة بإظهار انزعاجها وغضبها. حتى مطلع التسعينيات من القرن الماضي ظل الباحثون الاجتماعيون والمراقبون يعتبرون السلوك الجامح من جانب قلة من الشبان المسلمين في فرنسا على الخصوص، شكلاً من أشكال الاحتجاج على التجاهل والإهمال وعدم النجاح في الاندماج والإحساس بالتمييز... أما ظاهرة الحجاب المحدودة فلم تثر الاهتمام في البداية، إذ انتشرت أولاً بين بنات المهاجرين الأتراك قبل أن تشمل باقي الجاليات الأخرى ذات الأصول الإسلامية. وكان هناك من أراد اعتبارها نوعاً من الاحتجاج أيضاً، ليس على الحداثة الأوروبية فقط، بل وعلى الأهل المحافظين. بيد أن التسعينيات أتت بظواهر جديدة لدى الطرفين، الإسلامي والأوروبي، فلدى المسلمين ظهرت غيتوهات كاملة بالحجاب واللحى وأشكال اللباس والسلوك الغريب. ولدى الأوروبيين تجاوز الأمر اعتبار الجاليات العربية والإسلامية عمالة منافسة وغريبة إلى ردود فعل ثقافية أو ذات طابع ثقافي، حيث أثارت قلق المثقفين الأوروبيين تظاهرات الاحتجاج على كتاب سلمان رشدي آيات شيطانية. ومنذ ذلك الحين افترقت رؤى الطرفين أو الأطراف وإن ظلت الأمور مختلطة في عيون الجمهور. كان هناك من سعى، وما يزال، لإحقاق الحقوق وإنجاز المواطنة وإدماج المسلمين عن طريق التدريب وخلق فرص العمل والاستجابة للمطالب، لكن كان هناك من اعتبر أيضاً أن الإسلام يملك طبيعة متجوهرة وثابتة والمسلمون خاضعون لها ولذلك فهم يميلون لأمرين: إدخال الخاص في العام، واستعمال الرموز الدينية في المجال العام ليس للتمايز عن الآخرين فقط، بل ولإزعاجهم! وعلينا ألا ننسى أن التسعينيات ما شهدت بدايات أحداث العنف باسم الإسلام فقط، بل شهدت أيضاً تفكك يوغوسلافيا السابقة وسط مذابح ضد المسلمين هناك حتى أواخر القرن العشرين. أي أنه في الوقت الذي كان فيه المسلمون يواجهون أوروبا بخصوصياتهم وذاتياتهم الدينية والرمزية والشعائرية والاجتماعية، واجهت أوروبا تحدياً آخر هو وجود مسلمين أوروبيين أصليين كان عليها الاعتناء بهم وحمايتهم بل والإعانة على إقامة دول لهم. وهكذا وعلى مشارف هجمات أسامة بن لادن على الولايات المتحدة ثم اندلاع العنف "القاعدي" في أوروبا أيضاً، كانت الجبهات قد صارت واضحة: وجود إحياء أو أصولية أو صحوة بين المسلمين الأوروبيين في أجيالهم الشابة على الخصوص، تعتمد الخصوصية والتمايز بالحجاب وباللحى واللباس، يواجهها إصرار أوروبي من المؤسسات الرسمية ومن المثقفين ومن الإعلاميين بالدعوة إلى الاندماج من دون شروط ورفض الخصوصيات الثقافية والدينية وضرورة إجراء إصلاح إسلامي ليتقبل المسلمون ويقتنعوا بفكرة وممارسة فصل الدين عن الدولة. كانت ظاهرة ابن لادن مسيئة للمسلمين في أوروبا والعالم من عدة نواح؛ فمن جهة حولت الإسلام إلى مشكلة عالمية وحققت فرضية صامويل هنتجتون بشأن صدامية الإسلام ودمويته، وزادت من مشكلات المسلمين الأوروبيين مع السلطات والجمهور عندما انتشر العنف الإسلامي في أوروبا أيضاً وشارك فيه شبان مسلمون من أبناء الجاليات المقيمة بالغرب. بيد أن أفدح ما عنته ظاهرة ابن لادن هو أن هناك انشقاقاً داخل الإسلام كما أن هناك انفجاراً مدمراً حدث بالداخل قبل أن ينال بشُواظِه العالم الأوسع. لقد جعلت ظاهرة ابن لادن كل مسلم بالغرب مشبوهاً، وزادت من ضغوط السلطات والجمهور على المسلمين بمختلف فئاتهم، بيد أنه بغض النظر عن العنف المنتشر عبر العالم، فإن الظاهرة الباقية، حتى لو لم تكن عنيفة، هي وجود توجهات قوية -ثقافية ودينية وسياسية- في قلب الإسلام تدعو داخل المجتمعات ذات الأكثرية الإسلامية إلى إقامة الدولة التي تطبق الشريعة. وفي المجتمعات التي يشكل المسلمون أقلية فيها، يتسبب ذلك التوجه في انفصالية وانكماش قد يقترنان بعنف وقد لا يقترنان، لكنهما يمثلان حالة من الاكتفاء العاجز ورفض المشاركة واعتبار أن الإسلام يواجه مؤامرة "عالمية" ولا بد من التفكير كل الوقت في طرائق للدفاع عنه. لقد كان هناك من اعتبر في سبعينيات القرن الماضي أنه في مواجهة التجربة السياسية المتعثرة في بلاد العرب والمسلمين، والتطرف الإسلامي المتصاعد فيها، فإن مسلمي المَهاجر يشكلون أملاً كبيراً باعتبار تعرفهم على مجتمعات مدنية منتظمة ومتقدمة وتجارب سياسية مزدهرة وعلاقة بين الدين والدولة لا ينظلم فيها أحد الطرفين. لكن لسبب أو لآخر تكررت الظواهر الدينية نفسها لدى جاليات المَهاجر ومسلميها. وربما عاد ذلك للترابط الوثيق المستمر والمتجدد بين تلك الجاليات ومواطنها الأصلية. ثم بسبب عدم النجاح في الاندماج الذي أعاقت تحققه متغيرات غربية أيضاً لكن أياً يكمن الأمر، فإن المسلمين بالمهاجر يواجهون مشكلات مضاعفة؛ منها الأصولية التي ظهرت بينهم فقتلت روح التوثب والتجدد. وكذلك انشدادهم إلى أحداث وتطورات البلدان الأم وهي ليست واعدة ولا مبشرة. إضافة للمتغيرات التي حدثت بالبلدان الأوروبية فزادت من الضغوط على المسلمين وشجعت نزعات التطرف أو الانكماش لديهم. ثم ظهور ابن لادن والذي أيقظ في أخلاد كثير من الشباب روح المغامرة الحية. وأخيراً وليس أخيراً عدم وجود المؤسسات الدينية المعتبرة في الوطن الأم وفي المهاجر والتي تستطيع أن تحتضن وتستوعب وتصغي للمشكلات وتنظر في الحلول. أما الأوروبيون فمن الطبيعي أن يرفضوا من جانبهم، دولاً ومجتمعات، العنف لأسباب اجتماعية أو دينية، بيد أن التطورات داخل المجتمعات الأوروبية خلال الثمانينيات والتسعينيات أفضت إلى رفض اختلاف المسلمين في حده الأدنى، ليس من جانب أوساط اجتماعية أو ثقافية فقط، بل ومن جانب السلطات التنفيذية والبرلمامية. وقد رفعت حروب ابن لادن مستوى التوتر في أوساط المسلمين في أوروبا وفي العلاقة بينهم وبين الأوروبيين، لكن المشكلة الأصلية تتمثل في صعود أصولية بين المسلمين في سائر أنحاء العالم، ومنها أوروبا، وصعود تيارات واتجاهات أوروبية ترفض الاختلاف الإسلامي بالذات، وتصعب في الوقت نفسه من شروط الاندماج وإمكانياته. كل مجموعة بشرية تملك معناها بحد ذاتها، والمسلمون وإن لم يكونوا في الحقيقة مجموعة واحدة، فالجميع يتعامل معهم باعتبارهم كذلك. هؤلاء الذين يبلغون خمس سكان العالم، هم الآن مشكلة عالمية. ومن المهم والمهم جداً أن نتأمل مشكلاتنا بالمنظورين الداخلي والعالمي وأن نبتعد عن الاعتذارية وعن الشفقة على النفس، وهما الأمران السائدان حتى الآن. المسلمون الفرنسيون هم طليعة مسلمي أوروبا والأكثر عدداً بينهم، ومن المهم أن يتأملوا مسائل مستقبلهم ومستقبل الإسلام في أوروبا، باعتبارهم الأكثر مسؤولية إن لم يكونوا الأكثر تأهلاً حتى اليوم.