يقيم حالياً أربعون نائباً من البرلمان اللبناني المنتمين إلى كتلة الأكثرية، المعروفة بفريق 14 آذار الموالي للغرب والمناوئ لسوريا، في البرج 3 من فندق "فينيسيا انتركونتيننتال" في بيروت. ويتميز الجناح المخصص لهم والمؤثث بالأرائك الفاخرة والشاشات التلفزيونية المسطحة وأجهزة الاستيريو، بالبهاء والفخامة، غير أن هؤلاء النواب ليسوا ضيوفاً على المكان، بل سجناء فيه. فلكي يصل المرء إلى فندق "فينيسيا"، عليه أن يجتاز ما لا يقل عن ثلاث نقاط تفتيش أمنية، وباباً إلكترونياً لرصد المواد المعدنية، وأن يُظهر بطاقة الهوية؛ كما تتولى مرافقة الضيوف إلى غرفهم عناصر من "قوات الأمن الداخلي" اللبنانية. وفي الداخل، يلاحَظ أن الستائر في غرف النواب مسدلة بشكل دائم حتى لا يتمكن القناصة من استهداف أعضاء البرلمان... كل هذه الأجواء شبهها أحد النواب المقيمين في الفندق بـ"سجن أبوغريب" الشهير. ومثلما يشي بذلك عزل هؤلاء المشرعين، فإن كتلة 14 آذار تأخذ مسألة أمنها على محمل الجد، ولها في ذلك حجتها القوية. فمنذ عام 2005، تم اغتيال أربعة أعضاء ينتمون إلى هذه الكتلة في العاصمة بيروت؛ وقد قلصت عمليات القتل هذه، إضافة إلى الوفاة الطبيعية لأحد أعضاء البرلمان والتخلي السياسي لعضو آخر، صفوف الأكثرية بشكل ملحوظ. ونتيجة لذلك، تمارس الحكومة التي كانت تتوفر في وقت من الأوقات على 72 نائباً من أصل 128 نائباً، الحكمَ حالياً بهامش ضئيل، أي 68 نائباً من أصل 127 نائباً. ويُعتقد على نطاق واسع أن نظام بشار الأسد في سوريا هو من يقف وراء حملة الاغتيالات المذكورة، وذلك بهدف إضعاف أو إسقاط أو إرعاب الحكومة اللبنانية المنتخَبة بطريقة ديمقراطية، وبالتالي إنهاء المحكمة الدولية التي يتوقع أن تُدين دمشق في شأن عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005. ومما يزيد من حجم التهديدات التي تواجه الأغلبيةَ البرلمانية، مشكلة الانتخابات الرئاسية التي بدأ مجالها الزمني في الخامس والعشرين من سبتمبر وتستمر إلى الخامس والعشرين من نوفمبر، ذلك أن البرلمان هو الذي ينتخب الرئيس في لبنان. وكانت الأكثرية قد أوضحت أنها إذ تفضل اختيار رئيسٍ يكون محل إجماع، فإنها مستعدة لانتخابه بأغلبية بسيطة في حال لم يتسن إيجاد مرشح يكون موضع توافق. وتقول المعارضة المدعومة من قبل سوريا والتي يتزعمها "حزب الله"، إنها لن تعترف برئيس لا يقع عليه الإجماع. ومن جانبها، تقول دمشق إن الرئيس اللبناني المقبل ينبغي أن يكون "مقاوماً" أو بتعبير آخر مؤيداً لـ"حزب الله"، و"عربي الانتماء" أي موالياً لسوريا أيضاً. إلا أنه في حال تمكن السوريون والمعارضة من الإطاحة بالحكومة عن طريق استنزافها أو تنصيب أحد أصدقائهم، مثل الرئيس المنتهية ولايته إيميل لحود، فإن ذلك يعني إرجاء المحكمة، حتى لا نقول تعطيلها ووقفها. والواقع أن المحكمة التي أُنشئت بطلب من مجلس الأمن الدولي، تبدو كقطار غادر محطته، غير أن انتخاب رئيس "يكون محل توافق" -أو بتعبير آخر، شخص أكثر تعاطفاً مع دمشق- من شأنه أن يُضعف التزام بيروت تجاه المحكمة ويضر بالدعم الدولي لها. كما تستطيع سوريا أيضاً إزاحة المحكمة من خلال وضع حد لسيطرة كتلة 14 آذار على الحكومة. لكن الخبر الإيجابي والسار، يتمثل في أنه سيكون من الصعب على السوريين في المدى القريب أن يغتالوا عدداً كافياً من نواب كتلة 14 آذار بهدف تغيير الأغلبية قبل نهاية الانتخابات الرئاسية، وذلك لأن لبنان، وخلافاً لما حدث عقب اغتيالات سابقة، لن يُجري انتخابات جديدة لشَغل المقاعد الشاغرة قبل الخامس والعشرين من نوفمبر. إذ تشير الحسابات الرياضية البسيطة إلى أنه سيتعين على السوريين أن يغتالوا ثمانية نواب آخرين -بحيث تصبح لدى فريق 14 آذار 60 مقعداً من أصل 119 مقعداً، وهو ما سيجعله دون أغلبية النصف زائد واحد- حتى يضمنوا إجراء انتخابات جديدة. بيد أنه بالنظر إلى العناد السوري، فإن الرياضيات لا تُطمئِن؛ إذ يرجح أن تجعل لعبة الأرقام من فندق "فينيسيا" هدفاً أكثر إغراءً بالنسبة للسوريين. وعلاوة على ذلك، فحتى في حال تمكنت الأغلبية من الصمود والاستمرار وخرجت من الانتخابات الرئاسية سليمة معافاة، فلا يوجد ما يؤشر على أن حملة الاغتيالات ستتوقف. فمن الواضح أن لبنان لا يستطيع حماية نفسه؛ ومن الواضح كذلك أن قرارات الأمم المتحدة التي تلوم وتنتقد سوريا لدورها في لبنان، لم تثبت حتى الآن نجاعتها وفاعليتها لردع ما تقوم به في لبنان. ونظراً للأخطار المحدقة -حضور سوري وإيراني جديد في لبنان وإمكانية إعادة توجيه بيروت بعيداً عن الغرب- فإن الحفاظ على الحكومة اللبنانية الحالية ضرورة قصوى وملحة. أمام هذا الوضع، يتعين على واشنطن وضع سياسة تهدف إلى منع سوريا وحلفائها اللبنانيين من تدمير الحكومة في بيروت. ومن بين الخيارات الممكنة في هذا السياق نشر قوات دولية، بطلب من لبنان، تكون مهمتها توفير الحماية للسياسيين المستهدَفين، في حين يتمثل خيار آخر أكثر فاعلية، ولكنه صعب سياسياً، في تحميل سوريا مسؤولية عمليات الاغتيال المقبلة في لبنان. وبغض النظر عن النهج الذي سيستقر عليه اختيار واشنطن، فإنه لابد من تحرك عاجل. والواقع أنه في حال تواصلت موجة الاغتيالات بدون متابعة أو محاسبة، فإن المعارضة الموالية لسوريا، والتي يتزعمها "حزب الله" المدعوم من قبل إيران، مستعدة لتحل محل الحكومة الحالية. ديفيد شنكر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زميل "معهد واشنطن"، ومسؤول سابق في "البنتاغون" عن قسم "سوريا ولبنان والأردن والأراضي الفلسطينية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"