قلّما كان صعود دولة بهذه السلاسة التي حدث بها صعود الصين خلال السنوات الأخيرة الماضية. ومن جانب واشنطن فقد أسهم عنف بوش إزاء الصين في إلهاب بقية العالم بموجة عارمة من الحنق والغضب إزاء مساندة بكين لأكثر أنظمة العالم قبحاً. أما في بكين نفسها فإنه يلاحظ أن عبارة "توازن المساعدات" وهي العبارة الأكثر طنيناً وأزيزاً هذه الأيام في العاصمة الصينية، وأكثرها قرباً ومحبة لقلب الرئيس "هو جينتاو"، قد أضحت بمثابة الغطاء التمويهي الذي تعبر به بكين عن استعدادها للتواؤم مع جلادي العالم وطُغاته وسفاحيه، طالما أن في وسعهم توفير إمدادات النفط والغاز الطبيعي وغيرهما من المواد الخام التي لا غنى عنها لدفع النمو الاقتصادي الصيني، باعتباره الشرط اللازم لاستمرار نظام حكم الحزب الواحد فيها. وربما يدرك الكثيرون أن حديث "هو جينتاو" عن "التوازن" ليس سوى محض هراء... ولكن من ذا يبالي أصلاً؟ ومع كل هذا النهم العالمي للاستثمار في الصين، في مقابل هوس واشنطن باستحداث مراكز قوى إقليمية بديلة لبكين، فقد أطلق العنان لذلك الشعار الصيني الأجوف ليسرح ويمرح على هواه. على أنه يجب القول إن الصين ليست منشغلة بمهام تصدير الحرب، أو تصدير أنماط التنمية أو الخطط السياسية أو الأخلاقية إلى الدول المذكورة التي تتبادل معها العلاقات. ذلك أنها لا تتطلع إلا إلى أمر واحد فحسب، ألا وهو تأمين الاستقرار اللازم لنموها التصاعدي. وفي هذا فإن الديمقراطية لا تحظى عندها إلا باهتمام ثانوي، إن كانت من اهتماماتها أصلاً. وفي الواقع فقد لقي الخراب الماحق الذي حاق بالديمقراطية في العراق هوى خاصاً في نفس بكين التي أبدت ارتياحاً كبيراً له. أما الذي لم تبدِ له ارتياحاً، فهو "ثورة الزعفران" التي قادها الرهبان البوذيون في الجارة ميانمار، مشرعين صدورهم لرصاص العسكر وبنادقهم، أملاً في تغيير ذلك النظام الوحشي القمعي، الذي استهل صعوده إلى سدة الحكم في عام 1988، بارتكاب مذبحة مروعة شملت 3 آلاف من المتظاهرين العزّل، ولم يرتدع من يومها عن أساليبه الوحشية هذه. وللحقيقة فإن اضطرابات الجارة بورما، فيها ما يقلق الصين لعدة أسباب واعتبارات. أولها كونها اضطرابات تحدث في بيت الجوار مباشرة. وثانيها أنها تهز كيان دولة صديقة، تحولت للتو إلى دولة وكيلة افتراضاً. فهناك ينهمك الصينيون في بناء الطرق وحرق الغابات ودعم مشروعات الغاز، فضلاً عن حلم بكين باستمرار استئثارها طويل الأمد والسري على مياه المحيط الهندي هناك. ثالثاً والأسوأ من كل شيء، ذلك القلق العميق الذي يساور الصين من أن ما يجري هناك في الجارة ميانمار، إنما يفضح ذلك التقابل الصارخ بين الخير والشر، كما هو متجسداً على أرض الواقع، وليس كما يقرأ عنه الناس في القصص والحكايات الخيالية. فما الذي يمكن لبكين أن تقوله عن مساندتها لنظام لا يتوانى جلادوه عن إطلاق رصاصهم في صدور الرهبان البوذيين المسالمين، وخاصة أن الثقافة البوذية السائدة في المنطقة كلها، تنظر إلى قتل الرهبان البوذيين، كحدث ترتعش له الأبدان خوفاً ورهبة. وما أسوأ أن يحدث هذا، قبيل تسعة أشهر فحسب من أولمبياد بكين. ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فقد أعربت بكين عن تململها وعدم ارتياحها لما يجري في ميانمار، ولكن دون أن يبلغ هذا التململ حد دعم مشروع القرار العقابي الذي أوشك على أن يصدره مجلس الأمن الدولي بحق عصبة ميانمار الحاكمة، لولا عقبة الفيتو الصيني- الروسي التي اعترضته. بيد أن تبرُّم الصين مما يجري في بيت الجوار، أعرب عن نفسه بتذليلها لمهمة إبراهيم جمباري، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى ميانمار، المشهود له بأهمية وحيوية الدور الذي يؤديه في فتح منافذ جديدة للحوار السلمي بين النظام العسكري الحاكم وزعيمة المعارضة "داو أنج سان سو كاي"، الحائزة على جائزة نوبل للسلام، والتي ظلت تحت قيد الإقامة الجبرية في منزلها إلى أمد طويل. ليس ذلك فحسب، بل لقد خطت الصين نحو إصدار بيانات -أحكمت صياغتها- عبرت فيها عن دعمها للاستقرار وجهود المصالحة الوطنية والديمقراطية والتنمية في الجارة ميانمار. أما حديث بكين عن الديمقراطية فهو أرخص بضائعها التي تريد تسويقها للعالم قبيل أشهر معدودة فحسب من الأولمبياد الذي تستضيفه، من باب تبيض الوجه لا أكثر. وأما "الاستقرار" الذي تعنيه بكين، فهو "بقاء الواقع البورمي كما هو" بما يعكس فوزها برهاناتها هناك. لكن، وفي الجانب البورمي نفسه، فقد ناهز رئيس البلاد وقائد العصبة العسكرية الحاكمة، الجنرال "ثان ش"و الـ74 عاماً وهو ليس بمنجاة من الموت، شأنه في ذلك شأن جميع البشر. وفي الوقت ذاته، بدأ اتحاد دول جنوب شرق آسيا، الذي تنتمي ميانمار إلى عضويته، مراجعة نصوص ميثاقه بحيث يكون ملزماً للدول الأعضاء فيه بتعزيز الممارسة الديمقراطية. أما على الصعيدين الإقليمي والدولي، فقد ازدادت عزلة ميانمار أكثر من أي وقت مضى، وخاصة أن ما شهدته إندونيسيا من انتقال سياسي من نظام الحكم العسكري، قد فضح أمر الجنرالات الحاكمين في رانجون، وكشف زيف حجتهم القائلة إن حكمهم يعد جزءاً لا يتجزأ من الحفاظ على البقاء الوطني للبلاد. وبعد كل الذي قيل، فقد باتت ميانمار على شفا الانقسام الداخلي والتشرذم. وفيما لو حدث هذا، فما أسهل على لوردات الحرب وتجار المخدرات ملء الفراغ السياسي الذي سيتركه الجنرالات من خلفهم. وعلى حد قول المؤرخ البورمي "ثانت مينت- يو" فإن ميانمار تمثل تحدياً من تحديات التحول الديمقراطي، إلا أنها تمثل قبل ذلك تحدياً جدياً من تحديات نمط الدولة الفاشلة. وعلى أية حال فإن من الواجب استغلال التسعة أشهر التي تفصل بكين عن الأولمبياد، في الضغط عليها وحثها على حفز عملية التحول السياسي من نمط الدولة الفاشلة هذا. روجر كوهين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"