خلص المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، في العدد 40 من السلسلة الدورية "أوراق إسرائيلية"، إلى عدة استنتاجات من أهمها ازدياد الشعور بأن النظام الحاكم في إسرائيل يمرّ بأزمة استراتيجية عميقة "تتجلى في زعامة قاصرة، وأداء غير قويم لأجهزة ومؤسسات السلطة، وتولد حالة من انعدام الثقة والوضوح. فالزعامة الإسرائيلية تفتقر إلى رؤيا وأهداف محددة كما أنها لم ترسم طريقاً واستراتيجية واضحتين، كما تراجعت فعالية ونجاعة أجهزة الحكم وباتت الحكومات (الإسرائيلية) تواجه صعوبة في ممارسة السلطة والتخطيط والتنفيذ، وذلك في ضوء انعدام الاستقرار السلطوي وعدم توفر الأدوات اللازمة للتخطيط واتخاذ القرارات، واضطراب منظومة التوازنات بين أذرع السلطة". إضافة لذلك، فإن تعقيدات الحلبة السياسية الإسرائيلية تجعلها حلبة غير واضحة المعالم، وتؤشر إلى استحالة إمكانية خلق عملية سياسية حقيقية. فالكل يحاول استغلال فشل الآخر. والمواقف ووجهات النظر تتفاوت وتتغير بين ليلة وضحاها، فهناك اختلاف في وجهات النظر بين قطبي حزب "كاديما"، إيهود أولمرت ووزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي لا تخفي مطامحها لخلافته على زعامة الحزب المتصدع، فيما يبدي ايهود باراك زعيم حزب "العمل" وزير الحرب، تشدداً ورفضاً لتقديم أية تنازلات سياسية للجانب الفلسطيني، لأنها -بحسب زعمه- تتعارض مع المصالح الأمنية الإسرائيلية. كذلك، أطلق وزير الشؤون الاستراتيجية "افيغدور ليبرمان"، زعيم حزب "إسرائيل بيتنا"، مفاجأة من النوع الثقيل لكن المعيق، عندما قال إنه يوافق على ضرورة "تقسيم" القدس لأن "إسرائيل ليست بحاجة إلى ضم أحياء عربية مثل شعفاط والشيخ جراح والعيزرية إلى سيادتها"، مشترطاً أن يقبل العرب في إطار التسوية أن "تكون الأحياء اليهودية بيد إسرائيل وأن تظل البلدة القديمة تحت سيادتها". بالمقابل، تحاصر أولمرت قضايا فساد وتقصير تهدده بفقدان دعم حزبه "كاديما". بل إن استطلاعات الرأي تطالبه بالاستقالة، وواشنطن تحدثت علناً عن مشاكله الداخلية إلى درجة إقرار "ألوف بن" و"شموئيل روزنر"، وهما الكاتبان الرئيسيان في صحيفة "هآرتس"، بأن "الإسرائيليين ذوي العلاقات والصلات في واشنطن سمعوا تقدير العاصمة الأميركية: "رئيس الوزراء أولمرت سينهي منصبه في الربيع القادم في أقصى الآجال. وحتى إذا بدأ الآن بخطوة سياسية فلن يكون لديه متسع من الوقت لإنهائها. الجمهور ضده في اليسار وفي اليمين، ولن يكون بإمكانه أصلاً أن يقوم بخطوات ملموسة. هذا يعني أن أولمرت هو بطة عرجاء، ولذلك من الخسارة إهدار الوقت والطاقة في الحوار معه قبل أن يبرهن على اجتيازه لمحطة الانتخابات الداخلية في حزب العمل وتقرير فينوغراد النهائي". الائتلاف الكبير الذي يقوده أولمرت في الحكومة، وهو –عددياً- من أقوى الائتلافات الحكومية في تاريخ السياسة الإسرائيلية، كثيراً ما يتعرض للاهتزاز. فحزبان من داخله يهددان بالانسحاب من الحكومة ("شاس" لليهود الشرقيين المتدينين، و"إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرف). وهناك أيضاً ضغوط داخلية في "حزب العمل" للانسحاب من الحكومة بعد أن كان قد تعهد أمام جمهوره بالانسحاب منها في حال صدور إدانة لأولمرت من لجنة فينوغراد، إضافة إلى أن وزراء في "كاديما" أعلنوا عن تحفظات على "الوثيقة" الجاري التفاوض حولها مع الفلسطينيين. وفي سياق متمم، ورغم اجتماعات القمة بين أولمرت والرئيس الفلسطيني محمود عباس، فإن هناك قناعة إسرائيلية لم تظهر على السطح، مفادها أن عباس ورئيس حكومته فياض ضعيفان لا يمكن المراهنة عليهما ولا يسيطران على الوضع في الأراضي الفلسطينية بالشكل الذي تراه إسرائيل مناسباً لأمنها واستقرارها. وهذا ما صرح به (عوتنايئيل شنيلر) عضو البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) عن حزب "كاديما" بعبارات مختلفة، وذلك بقوله "إنه إذا كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس يطمح لإنجاز وثيقة مفصلة حول مبادئ التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، فهو يزرع بذلك بذور الانتفاضة المقبلة. وعقد لقاء بين زعيمين لإجراء محادثات بينهما ليس كفيلاً بصنع السلام". إزاء هذه الحيثيات، فإن أولمرت -الرافض لإجراء حوارات ومفاوضات جدية حول حلول الوضع النهائي في الوقت الحاضر- غير معني (بفعل ضغوطات إسرائيلية داخلية) بإيجاد حل نهائي. أما بالنسبة لحكومة فياض فينظر إليها من بعض المراقبين على أنها حكومة انتقالية، وثمة تخوف إسرائيلي (ليس له أساس صلب) بأنها لن تستمر لفترة طويلة وذلك في حال انخفض الدعم العربي والأوروبي لها، وعندئذ سيذهب الاتفاق الذي سيتم إبرامه مع عباس وحكومة فياض أدراج الرياح! وفي سياق مختلف، فإن صيغة اتفاق مبادئ تتناول قضايا الحل النهائي لا يمكن التوصل إليها حتى مؤتمر الخريف القادم نتيجة وضع أولمرت الذي، منذ تسلمه رئاسة الوزراء، يسير على حبل رفيع شبيه بحبال السيرك، فلا يكاد يخرج من مأزق حتى يدخل في آخر، ربما لن يكون آخرها التحقيق في شبهة الفساد الجديدة في الأسبوع المنصرم. ويرى العديد من المراقبين أنها، وغيرها مما سبق، ستؤثر في وضعه المهلهل أصلاً وتربك حساباته على مستوى المفاوضات مع عباس، وأيضاً على مستوى استعداداته لمؤتمر الخريف. خلاصة القول إن إسرائيل (على اختلاف مواقف زعمائها وتباعدها سياسياً، بل ربما بسبب ذلك) ترفض مجرد تخيل كون أولمرت، الرازح تحت كومة من التحقيقات الجنائية، قادراً على تقديم شيء "محرز" كأن يفرض الانسحاب من جزء من مستعمرات/ "مستوطنات" الضفة. فهو -حقاً- لا يمتلك القوة السياسية لإرغام الأجنحة الإسرائيلية المتطرفة (بل وغير المتطرفة) على قبول السلام والتنازلات المتبادلة والمصالحة مع الشعب الفلسطيني. كما أن واشنطن نفسها (بسبب وضعها المأزوم في العراق) لا تقدر على ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل لإقناعها بضرورة تقديم تنازلات "مؤلمة"، وبذلك فإن مؤتمر الخريف مرشح لأن لا يفضي إلى توقيع اتفاق سلام، بل ربما هو مرشح فقط لإحداث تغييرات لتخفيف المعاناة لكنها لا ترقى إلى تحقيق أي تغيير جوهري على الأرض. فالرغبة الإسرائيلية الجادة لتحقيق السلام والتعايش مفقودة، وهو ما عبر عنه "عوفر شيلح" الكاتب في "معاريف" (18 مايو) حين قال: "يتوجب إعطاء فسحة من الأمل من خلال الاستعداد لعملية سياسية مهمة وحقيقية في مواجهة الفلسطينيين والدول العربية التي تعتبره الأمر الوحيد الذي يتمخض عن مصلحة حقيقية لإيقاف العنف. هناك حاجة إلى إزالة النهج أحادي الجانب ووهم الاعتقاد بأن جداراً، مهما كان شاهقاً، سيتمكن من توفير الحماية لنا وإزالة من يوجد في الجانب الآخر من الذاكرة. هناك حاجة إلى قيادة نوعية باختصار شديد. وإسرائيل لا تملك قيادة"، أي تفتقر إلى زعامة قادرة على تقديم تنازلات مؤلمة تصل بها إلى معاهدة سلام دائم وشامل.